لو نظرنا بجدية للواقع الصحي من منظور المسؤولية وما تعكسه من تجليات ومتطلبات لا يمكن إغفالها، سنجد أولا أننا بحاجة إلى تفهم حقيقة الوضع الوبائي للأمراض المعدية في إقليم شرق البحر المتوسط (وهو حيز جغرافي كبير يشمل اليمن وعددا كبيرا من البلدان بحسب تصنيف منظمة الصحة العالمية)، وعلى رأسها تلك الأمراض الأشد تهديدا للطفولة والوقاية منها متاح من خلال التحصين كمرضي شلل الأطفال والحصبة.فشلل الأطفال الفيروسي اختفى من اليمن باختفاء حالات الإصابة منذ ما يربو على خمس سنوات، وبالمقابل لا يزال مستمرا ظهور حالات إصابة بهذا الداء في بعض دول إقليم الشرق المتوسط مثل (باكستان، أفغانستان) وحتى خارج الإقليم بالقارة الأفريقية في بلدان تبعد عن اليمن مثل (نيجيريا، تشاد..)، لكنها وإن بعدت فليس من الممكن اعتبار المسافة الطويلة فاصلا جغرافيا ليعيق انتشار فيروس شلل الأطفال عن الوصول إلى اليمن، أو إلى دول مجاورة ومنها إلى اليمن عبر حركة السفر بين البلدان.إذن، من المحتمل جدا أن يكون من بين المسافرين القادمين من تلك البلدان التي ينشط فيها مرض شلل الأطفال الفيروسي، من يحمل عدوى الفيروس فينقل العدوى إلى البلدان التي توجه إليها بكل يسر دون علمه بذلك أو بأنه يحمل هذه العدوى.بالتالي هذا يضع اليمن الخالية من المرض أمام تحد جديد يفرض استمرارها برفع وتيرة ومستوى التحصين الروتيني، إلى جانب سيرها في تنفيذ حملات التحصين من أجل المحافظة على خلوها من فيروس شلل الأطفال البري مستهدفة الأطفال دون الخامسة من العمر, تجنبا لعودة المرض ومنعا لحدوث فاشية جديدة كتلك التي حدثت أواخر العام 2004م وامتدت إلى العام 2005م، بما يضمن بقاء مناعة جميع الأطفال دون الخامسة من العمر في اليمن قوية صلبة تمكن مناعة الأطفال من التصدي لفيروس الشلل والحؤول دون وقوع الإصابة.وبمسؤولية ثابرت وتثابر وزارة الصحة العامة والسكان ممثلة ببرنامج التحصين الموسع للحفاظ على رصيد اليمن لتبقى خالية تماما من هذا الداء الوخيم، فانتهزت فرصة تنفيذ حملة التحصين الوطنية ضد الحصبة فقرنتها بالتحصين بلقاح شلل الأطفال، وهذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها التطعيم بلقاحي الحصبة والشلل معا؛ ففي أواخر عام 2009م جمعا معا ضمن الحملة الوطنية للتحصين آنذاك، كذلك في جميع حملات الحصبة المصغرة التي نفذت في المديريات والمحافظات ذات الخطورة.هذه هي الصورة الكاملة للواقع وما أفرزته من تجليات..وقد يقول قائل، لماذا لا يكون الاكتفاء بلقاح شلل الأطفال بمعزل عن لقاح الحصبة في حملة التحصين الوطنية الجاري تنفيذها من (31 مارس-5 أبريل2012م)؟علينا أولا الـتأمل إلى الواقع وما يكتنفه من مستجدات وتحديات لا يمكن التغاضي عنها، ومن تجلياته أن استهدفت حملة التحصين ضد مرضي الحصبة وشلل الأطفال الفيروسي التي نحن بصدد تنفيذ مرحلتها الثانية في (15) محافظة خلال الفترة من (31 مارس- 5 أبريل2012م)، وذلك للأطفال من عمر(6) أشهر حتى ما دون (10) سنوات، إلى جانب استهدافها بلقاح الشلل الفيروسي للأطفال دون الخامسة من العمر في آن واحد على غرار ما تم في مرحلتها الأولى التي نفذت قبل نحو أسبوعين في (7) محافظات، وبني ذلك الاستهداف لمرض الحصبة على البلاغات الواصلة من محافظات الجمهورية عن تزايد حالات الإصابة، حيث أخذت الحصبة تنتشر سريعا فخلفت إصابات بين الأطفال بالآلاف وأسفرت- أيضا- عن عشرات الوفيات، ما أعطى مؤشرا على وبائية المرض وحدته بمنح ينذر بتزايد واتساع المشكلة.وبالتالي دقت نواقيس الخطر بما فرض على وزارة الصحة وبرنامج التحصين الموسع وجوب التدخل قبل اتساع المشكلة من خلال تطعيم الأطفال من عمر (6) أشهر حتى ما دون (10) سنوات ضد داء الحصبة، إذ أن هذه الفئة- تحديدا- كانت الأكثر قابلية للإصابة، فجاءت البداية بالمحافظات الأكثر وبائية ضمن المحور الأول لحملة التحصين الذي شمل كلا من(عدن، أبين، لحج، ذمار، البيضاء، شبوة، صعدة)، ليليها في المسار الصحي القويم ذاته التحصين للمستهدفين من الأطفال في محافظات (أمانة العاصمة، تعز، حضرموت الساحل، حضرموت الوادي والصحراء، صنعاء، الحديدة، إب، الضالع، عمران، حجة، المهرة، مأرب، المحويت، ريمة، الجوف)، معتمدة في تنفيذه على المواقع الثابتة المتمثلة في المرافق الصحية المقدمة خدمات التحصين، وكذا على مواقع أخرى مؤقتة مستحدثة منها بعض المدارس الأساسية، بمعنى أن الحملة ليست من منزل إلى منزل، كما في حملات شلل الأطفال.وليس هذا جوهر المشكلة فحسب، فهناك عوامل وأسباب أخرى أسهمت في انتشار الإصابة بمرض الحصبة وزيادة حدتها ووخامتها، أوجزتها الدكتورة/ غادة شوقي الهبوب - مدير البرنامج الوطني للتحصين الموسع بوزارة الصحة، في:-1 -ضعف التغطية الروتينية بلقاح الحصبة في المناطق التي انتشر فيها المرض.2 -رفض بعض الأسر تطعيم أطفالها ما ساعد في انتشار المرض بين الأطفال.3 -الظروف الصعبة التي مرت بها البلاد خلال العام 2011م لاشك أنها انعكست سلبا على المواطنين ما أدى إلى نزوح العديد من الأسر بين المحافظات، وبالتالي نقل المرض من منطقة لأخرى.4 -عدم استقرار الأوضاع الأمنية في بعض المحافظات مثل (صعدة وأبين..) ومناطق من البلاد أثر سلبا وبشكل كبير في إيصال خدمة التحصين أو وصول الأهالي إلى مواقع التحصين.5 -ازدياد عدد الأطفال المهيئين للإصابة بمرض الحصبة عاما تلو عام أرسى الأجواء الملائمة لانتشار الحصبة ؛ فبحرمان بعض الأطفال من التحصين بلقاح الحصبة يتحصلوا على المناعة المطلوبة التي تقيهم وتجنبهم الإصابة.6 -تدهور المستوى المعيشي للكثير من الأسر بدوره أفضى إلى زيادة حالات سوء التغذية عند الأطفال، مما أدى إلى ضعف جهازهم المناعي.وبالنظر إلى سوء التغذية فلدى خبراء التغذية ما يبرهن على مساوئها وأضرارها الكبيرة على صحة الأطفال، إذ يرون أن سوء التغذية يضعف المناعة وتنجم عنه قابلية عالية للإصابة بعدوى الأمراض الوخيمة وعلى رأسها الحصبة، وأنه يفاقم من أمر الإصابة ويجعلها أكثر حدة فيسهل بذلك دخول الطفل المريض في صراع مع المضاعفات الخطيرة للحصبة كتلك التي تسبب إعاقة مستديمة مثل الصمم أو العمى أو تلك التي تؤدي إلى الوفاة.والأجدر هنا توضيح حقيقة لقاح التحصين وما له من فوائد من هذه الناحية، فعندما يحصل الطفل على اللقاح يقوم الجسم بالعمل على إنتاج الأجسام المضادة التي بدورها توفر الحماية للطفل من الإصابة بالمرض، وهذه الأجسام المضادة عبارة عن مادة (بروتينية)، فيمَ الجسم - بطبيعة الحال- يحتاج (البروتين) حتى يتمكن الجهاز المناعي من إنتاج هذه الأجسام المضادة، ولو أنه افتقر إلى مادة (البروتين) الموجودة في اللحوم والبقوليات والألبان فلن يتمكن جهاز المناعة من إنتاج تلك الأجسام المضادة.لذا كان لتدهور الوضع المعيشي والاقتصادي للأسر اليمنية، أن انعكس سلبا على الحالة المناعية للأطفال، وأدى - مع عزوف البعض عن تحصين أطفالهم- إلى ظهور داء الحصبة وانتشاره على نحو واسع.وهنا تبلورت- أيضا- أهمية فيتامين أ الذي يلازم التحصين ضد الحصبة، لما فيه من فوائد لمناعة الجسم، كونه المكون الأساسي لبطانة الأجهزة العضوية لجسمه، ويعد الغشاء المخاطي الذي يقوم بحماية أعضاء الجسم.ولأن سوء التغذية العامل الابتدائي المسبب لضعف المناعة عند الأطفال؛ فإن مرض الحصبة يعتبر المسبب المباشر لنفاذ ونضوب هذا الفيتامين من مخازن الجسم .وبما أن فيتامين أ حيوي يخفف من مضاعفات مرض الحصبة بشكل كبير، كان لإستراتيجية حملة التحصين ضد مرضي الحصبة وشلل الأطفال أن أتاحت إعطاء هذا الفيتامين بالكيفية التي يتم إعطاؤها للأطفال عبر التطعيم الروتيني تزامنا مع جرعتي الحصبة الأولى والثانية.بالتالي يصادف موعد حملة التحصين الوطنية ضد مرضي الحصبة وشلل الأطفال المقرر تنفيذ محورها الثاني من (31 مارس- 5أبريل 2012م) مرور ما يزيد عن أربعة أشهر على إعطاء فيتامين (أ) خلال الجولة الأولى لحملة شلل الأطفال التي نفذت في منتصف نوفمبر من العام الفائت، ما يعني مضي الفترة المطلوبة لإعادة جرعة فيتامين أ الموصى بها من منظمة الصحة العالمية، وذلك بالمحافظات المستهدفة في هذه الحملة وعددها (15) محافظة، على غرار ما تم قبل نحو أسبوعين خلال المرحلة الأولى للحملة في المحافظات السبع التي استهدفت بالتحصين ضد مرضي الحصبة وشلل الأطفال الفيروسي آنذاك، كما أن فيتامين (أ) يعطى للأطفال المستهدفين من عمر (6) أشهر حتى ما دون (5) سنوات بمعيار معين:-للأطفال من عمر(6أشهر-11شهرا) جرعة من الفئة (100ألف) وحدة عالمية (كبسولة زرقاء).-للأطفال من عمر(12-59شهرا) جرعة من الفئة (200ألف) وحدة عالمية (كبسولة حمراء).علما بأنه يمكن إعطاء جرعات من فيتامين (أ) للأطفال كل (4-6 أشهر)، في حين لم يمكن إعطاؤه لمن يقل عمره عن (6أشهر).وفي الأخير.. نناشد الآباء والأمهات والمجتمع عموما أن يجدوا في السعي لتطعيم جميع الأطفال بجرعات كاملة في مواعيدها خلال مرحلة التحصين الروتيني المستهدفة للأطفال دون العام والنصف من العمر، وضرورة أن يدركوا أهميته في حماية الطفولة في مجتمعنا.وأيضا، ننشد من الجميع التعاون الخلاق في جميع المحافظات المستهدفة في المرحلة الثانية لحملة التحصين الوطنية ضد مرضي الحصبة وشلل الأطفال في كل من (أمانة العاصمة، تعز، حضرموت الساحل، حضرموت الوادي والصحراء، صنعاء، الحديدة، إب، الضالع، عمران، حجة، المهرة، مأرب، المحويت، ريمة، الجوف) في الفترة من (31مارس-5أبريل2012م)، بما يمكن فرق التطعيم من القيام بعملها بالشكل المطلوب، ويحقق النجاح لحملة التحصين الوطنية حتى تستطيع الحد من انتشار وباء الحصبة بتقليص حالات الإصابة وكبح مخاطر المرض وتهديداته الفادحة، ولتستطع- أيضا- محاصرة فيروس شلل الأطفال بما يمنع ظهوره وانتشاره في اليمن من جديد، هذا ما نأمله ونستجديه من الجميع لتتويج صحة الطفولة ودرأها عن التهديدات الوخيمة.
المرحلة الثانية لحملة التحصين ضد الحصبة وشلل الأطفال..إطلالة للصحة
أخبار متعلقة