نجمي عبدالمجيدتذهب بنا الكتابات الفرنسية عن عدن إلى جانب آخر من ذلك المشهد (عدن في الأدبيات الغربية) حيث ظل المشهد البريطاني هو من يتسيد على الموقف في هذا الاتجاه من تاريخ عدن في العصر الحديث.وتشكل الكتابات الفرنسية التي دونت لتاريخ عدن في حقبة دخولها العهد البريطاني ـ الغربي، صوراً من الذاكرة الغربية التي اتصلت بما مر على عدن من أحداث ومراحل كانت فيها هذه المدينة إحدى بوابات العالم المهمة والميناء البحري الذي يربط خطوط التواصل مع أطراف الكرة الأرضية، وجاءت هذه الكتابات الفرنسية لتضيف لنا معارف من هذا التكوين التاريخي المتميز لعدن.قدم لنا الدكتور مسعود عمشوش في كتابه الصادر عن جامعة عدن عام 2003م (عدن في كتابات الرحالة الفرنسيين) من خلال الترجمة والدراسة، ما خزن في الذاكرة الثقافية الفرنسية حول عدن، وكيف تلاقت أو اختلفت الصور والملامح حول هذه المدينة، والعلاقة بين التاريخ والسياسة وما يترك ذلك من اجتهادات لصنع صورة لشكل المكان، وكأن الذاكرة لا تكتفي بالمعايشة والاتصال الذاتي، ولكن لابد من إعادة التصور للمكان حتى يتحاور المتخيل مع الواقعي.يقول الدكتور مسعود عمشوش عن عدن في المخيلة الفرنسية: (من بين مدن شبه الجزيرة العربية تحتل عدن مكانة خاصة في خيال القارئ الأوروبي .فمنذ القرن السادس عشر قام عدد من الجغرافيين والمستشرقين، مثل نيبور وايليزيه ركلوس وكلود موريس، بتقديم ملاحظات جغرافية وتاريخية عن عدن تجعل منها مدينة في غاية الجمال.ومن البديهي أن يشرع الرحالة الفرنسيون، قبل زيارتهم لعدن، في قراءة مختلف النصوص التي كتبت عنها.وهذا يدفعهم بالطبع إلى تكوين صورة جاهزة عنها. فبول نيزان، الذي يؤكد أنه قبل وصوله إلى عدن قد قرأ عدة نصوص عن المدينة التي سيعيش فيها، يورد في كتابة عدداً لا باس به من تلك الملاحظات التي كتبها المستشرقون .فهو ينقل مثلاً هذا الوصف الذي كتبه الرحالة الجغرافي سامسن سنة 1683م عدن أكثر مدن الجزيرة العربية كلها جمالاً وروعة، وهي محاطة بأسوار عظيمة من ناحية البحر، وبالجبال من ناحية البحر.وعلى قمم هذه الجبال تبرز بجلاء عدة حصون وفيها ستة آلاف منزل على الأقل، وهي تقع في نهاية البحر الأحمر، وعلى طرف محيط عظيم”لكن هذه الهالة الرومانتيكية التي تحيط بـ (جنة عدن) في أذهان الرحالة الفرنسيين تهتز عندما يكتشف هؤلاء الرحالة، أن عدن صخرة بركانية قاحلة.ومع ذلك فهم لا يتخلون ابداً عن السعي لإعطاء نصوصهم ابعاداً جمالية رومانتيكية، ويعثرون على بعض منها في منظر المزيج البشري الذي يجعل من عدن بابل جديدة، وكذلك في بقية المشاهد الشرقية الغربية التي تبدأ بولائم رمضان المغلقة وتنتهي بـ (الكرنفال الهندوسي الغريب الذي فيه يرش أكثر الشيوخ وقاراً أنفسهم بالحبر، وتزين الأبواب المتواضعة برموز بذائية)ويبحث الرحالة الفرنسيون ايضاً عن الجمال الرومانتيكي في مئذنة مسجد العيدروس وبرج الصمت الذي يطل عليها، كما يحاول الرحالة ان يعطوا لنصوصهم صبغة رومانتيكية من خلال الإمساك ببعض مكونات الشرق الأسطوري في عدن. فبول نيزان ـ مثل رامبو يرى في عدن صخرة محاطة بتموجات دائرية ألقاها طائر الرخ في طرف المحيط الهندي. إنها إطار لمغامرات السندباد البحري. ويضيف: (عدن بركان قمري انفجر احد جوانبه كبرميل بارود قبل ان يوجد رجال ينسجون الأساطير .. ولو أنهم فيما بعد قالوا إن عدن بوابة جهنم، وان عودة بركان عدن للحياة سيكون إيذاناً بنهاية العالم). أما الفرد بارديه فيذكر ان قبر أدم ابي الأجناس كلها موجود في عدن.وعن طريق العقبة يكتب: تقول إحدى الأساطير أن هذا الممر قد شقه الخليفة بضربة واحدة من سيفه ).كثير هم الكتاب الفرنسيون الذين كانت عدن بالنسبة لهم محطة مهمة وهم في طريقهم إلى الشرق مثل آرثر دي غوبينو وبول موراند وفيليب سوبو،واندريه مالرو،غير أن القليل منهم استقر لبعض الوقت في عدن مثل الشاعر رامبو الذي جاء إليها في عام. 1880م والأديب بول نيزان الذي مكث في عدن أكثر من ستة أشهر وتحديداً من شهر نوفمبر 1926م حتى شهر مايو 1927م.ومن الشخصيات الفرنسية التي تقدم لنا الأدبيات الفرنسية معلومات عنها، وما كان لها من إسهامات في تاريخ عدن الحديث، رجل التجارة الشهير أنتوني البس، الذي جاء إلى عدن عام 1899م وفي عام 1902م أسس شركة تجارية صغيرة في الحديدة باسم عدن ـ الحديدة، وفي عام 1918م كان يخطط ليجعل من منزله في عدن مركزاً ثقافياً، وأن ينشئ مكتبة عامة للمدينة. وفي عام 1936م اسس شركة الخطوط الجوية العربية، وتعد هذه الشركة أول شركة للطيران المدني تؤسس في عدن، أما الطيران الحربي البريطاني فقد دخل عدن في عام 1916م وعندما أسست إدارة شركة خطوط عدن الجوية عام 1949م عين أول رئيس لمجلسها.الكاتب الفرنسي جوزيف أرثر دي الذي عاش من عام 1816 حتى عام رحيله 1882م يعد أحد أدباء فرنسا الكبار في القرن التاسع عشر، في بداية عام 1855م عين سفيراً لفرنسا في إيران، وقد طاف في العديد من دول الشرق ومنها عدن، وفي عام 1859م أصدر كتابه الذي يحمل عنوان (ثلاث سنوات في آسيا) وفي هذا الكتاب يقدم بعضاً من ملامح الحياة في عدن: (توجد في عدن أعداد كبيرة من أولئك الرجال الذين يأتون من شرق أفريقيا وهم يقدمون للغزاة مختلف أنواع الخدمات.والحكومة البريطانية، من جانبها تعاملهم بصورة جيدة وتسامح. وفي الواقع، لا يمكن للبريطانيين أن يستغنوا عن الخدمات التي يقدمها لهم الصوماليون والتي لا تقدر بثمن. بالإضافة الى ذلك فالصومال توفر جزءاً كبيراً من التموينات الضرورية للحامية البريطانية في عدن.ولا شك ان هذه الحامية ستعاني من الجوع لو حصل سوء فهم بين الصوماليين واسيادهم.لكن يبدو أن حداً لا يخشى وقوع شيء من هذا القبيل، إذ أن الصوماليين لا يجنون من علاقاتهم بالبريطانيين الا ثماراً جيدة . فهم يكسبون مبالغ دون عناء يذكر ويتسلون كما يطيب لهم في عدن ولا يوجد فيها ماينغص عيشهم.تقع المنطقة التي يوجد فيها الفندق في إطار حدود عدن، الا أنها لم تكن في داخل المدينة فعلاً.لهذا زودنا الفندق بعربات صغيرة لكي نستطيع الذهاب إلى المدينة وقد وصلنا إليها بعد ساعة من الزمن. لم تكن الطريق إلا تراباً وصخوراً في اليسار كان البحر ، وفي اليمين كنا نصعد ونهبط داخل متاهة صخرية تنتهي بممر جميل شق وسط الصخور الصلبة وفجأة انتصبت بوابة المدينة التي حفرت وسط سور طبيعي ضخم إنها إبداع إنساني أصيل يسهر على حراسته عدد من أبناء البلد. وبعد أن تجاوزنا البوابة هبطنا مسرعين إلى أن وجدنا أنفسنا وسط مكان يشبه السيرك الكبير ويقع في فوهة كبيرة لبركان ساكن ترتفع حافته المسننة في الاتجاهات جميعها وفي الوسط ، تكومت منازل خشبية ذات طابق واحد وبرندة: هذه هي عدن. يطلق على هذا المكان : المعسكر . وعلى الرغم من انه مكون من مساكن ثابتة ، فهو يشبه فعلاً المعسكر اكثر مما يشبه المدينة . أما الشوارع فقد كانت عريضة ومتباعدة وقصيرة تحاذيها احياناً سياجات بساتين قليلة النبت وتبدو كأنها قد رميت صدفة وسط هذا المكان الشاسع والخالي. فالمنازل القليلة كانت متناثرة هنا وهناك وتفصل بينها مسافات تزيد من طولها الحرارة التي تشتد في هذا الجحر الواسع الذي يبدو أن الطبيعة قد خصصته في السابق لنار الأرض وفي الحاضر لنار السماء وفي الأحوال كلها لحريق النيران دائماً وابداً. لقد كنا نعتقد أننا في الجزيرة العربية . لكن كم كانت دهشتنا كبيرة فعند دخولنا احد الشوارع وجدنا أنفسنا وسط الهند لا شيء هنا يشبه ما سبق أن شاهدناه في جدة. لا ادري إذا كنت أحسن التعبير إذا قلت إن إحساسنا بالأشياء بدأ يتغير : فعلى الرغم من أن البيوت في عدن وجدة هي البيوت أنفسها والخشب هو الخشب نفسه والأحجار هي الأحجار نفسها من الواضح أمام أعيننا انه توجد طرق مختلفة لاستخدام تلك المواد وتنظيمها فقطعة الخشب المطلي باللون الأحمر لا تأخذ الشكل واللون نفسيهما في كل مكان . اللون الأحمر الذي نراه مثلاً فوق واجهات حاناتنا ليس اللون الأحمر نفسه الذي ترتديه البيوت التركية وهذه الأخيرة لا تبحث في الألوان عن تلك الصبغة الشاحبة التي تفضلها العيون الهندية. في شوارع عدن الهندية لا يمكنك مشاهدة تلك البيوت الكبيرة البيضاء التي تشبه القلاع وتحمل بعناء المشربيات الضخمة الجميلة المرء هنا لا يستطيع أن يشاهد إلا مساكن صغيرة مظلمة مفتوحة من الأمام كالمتاجر وتوجد أمام كل منها منصة خشبية تستخدم صالوناً وقاعة طعام وغرفة نوم وهذا يتيح للسكان الاستفادة من الأملاك العامة والنوم وسط الشارع فوق تلك المنصات تقرفص بعض الرجال الذين احمرت جلودهم السمراء وقد وضع كل واحد منهم فوق أسفل جسده مئزراً قصيراً وعلى رأسه خرقة ضيقة أما فوق صدورهم وحول سواعدهم النحيلة فقد تدلت تمائم وحلي ليس لها في الغالب قيمة تجارية كبيرة لكن لا شك أن أهميتها الروحية لا تقدر بثمن فهي تحتوي على كثير من الأسرار والرموز وعلى جبهات هؤلاء الرجال الذين يختلفون تماماً عنا نقشت طلاسم عقائدية مصبوغة بألوان مختلفة). الفرد باردية رحالة وتاجر عاش في عدن في عام 1880م مع اخية لويس وفتح مؤسسة تجارية فيها وله كتابات عن عدن نشرها المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي عام 1981م بعنوان “ بحر العجم” ويروي في ما كتب قصة وصوله إلى عدن في تلك الحقبة من التاريخ. وعن عدن يقول : ( بعد أن خفضت السفينة سرعتها دخلت في الجزء الغربي من عدن المسمى التواهي “ ستيمر بوينت” وهو خاصرة جبل ارتفعت عليها مبان مهمة مثل مبنى وكالة الخطوط البحرية الفرنسية ومبنى وكالة الجزيرة والشرق التي تمتلك سفن البريد إلى الهند والمبنى الذي يقيم فيه حاكم عدن وعدد آخر من المباني المختلفة التي شيدت بالطريقة الهندية وتستخدم سكناً للموظفين والضباط الانجليز. أما على يسارنا فقد تجاوزنا كومة صخرية أخرى تسمى جبل قلسم أو عدن الصغرى. بين هاتين الكومتين الصخريتين يحتمي ميناء عدن ، وقد خصص المرسى الموجود في طرفة الشرقي للمراكب المحلية. رست “ النجمة “ أمام ساحل كبير شكله نصف دائري ، يسمى التواهي في الجزء الداخلي من هذا الحي المقوس ارتصت مبان بيضاء كبيرة تتكون واجهاتها الأمامية في الطابق الأرضي والدور الأول من برندات تعلوها سقوف مسطحة. فوق احد سقوف تلك المباني انتصب عنوان طوله ثلاثون متراً وطول كل واحد من حروفه متران انه “ فندق الكون الكبير” صعد السيد جول سويل صاحب ذلك الفندق واحد أقرباء مرافقي السيد دوبار إلينا حينما سمحت لنا السلطات بمغادرة السفينة وقد كان طويلاً سريع البديهة في حوالي الخمسين من عمره يلبس الزي المعتاد للمستعمرين الذي يتكون من بنطلون وستره مصنوعين من قماش قطني رفيع وحذاء مصنوعة ايضاً من القماش وقبعة عريضة وخفيفة يبدو أن جول سويل لم يعان كثيراً من مناخ عدن وهو يلبس هذا الزي الذي يتناسب حقاً ودرجة الحرارة هنا التي تتراوح بين 30 و 40 درجة ليلاً ونهاراً لمدة تسعة أشهر في السنة وتنزل خلال الثلاثة الأشهر الأخرى من نوفمبر إلى فبراير إلى ما بين 25 و 30 درجة). أما عن وصف هذا الفندق من الخارج والداخل الذي كان من معالم التواهي السياحية العالمية والآن في حكم المفقود والآثار الغائبة فيحدثنا الكاتب الفرد بارديه عنه واصفاً ذلك الوجه الضائع من ذاكرة عدن حيث يقول : ( بعد لحظات وجيزة دخلنا الفندق الذي يبعد عن الميناء مائة متر تقريباً ويقع في بنايه كبيرة تتكون واجهتها من أقواس ضخمة تشكل برندة عرضها أربعة أمتار في الطابق الأرضي وكذلك في الدور الأول بينما تختفي تلك الأقواس في الدور الثاني في وس-ط البناية يقع المدخل الرئيسي للفندق الذي يجب أن تصعد بضع درجات قبل اجتيازه. على يمينك تجد قاعة طعام طويلة وعلى يسارك يوجد دكان بالحجم نفسه يباع فيه كل ما يمكن أن يحتاج إليه المسافرون وكثير من أنواع التحف العربية والهندية والصينية واليابانية والأفريقية كأسلحة المتوحشين وجلود الأسود والنمور والقرود... الخ . أما في الدور الأول فقد ارتفعت الغرف بملاصقة البرندة المطلة على البحر التي تشكل سطحاً مسقوفاً باستطاعة النزلاء جميعهم الجلوس فيه). تلك بعض الصور من تاريخ عدن في الأدبيات الفرنسية، الذاكرة التي حفظت لنا ما غاب في الحاضر من ملامح عدن، هذه المعلومات التاريخية تجعلنا نعيد رسم صورة هذه المدينة على مساحات أوسع من المخيلة التي تعيد صياغة الشكل وعدن مدينة لها مع التاريخ اكثر من ذاكرة وذكرى لأنها مدينة البحر.
|
ثقافة
صور من عدن في الذاكرة الفرنسية الثقافية
أخبار متعلقة