عندما تمتزج الشجون بألوان الطبيعة..
دفاع صالححين هاجت به الشجون، وازدحمت في خاطره صور شتى من ماضيه، لجأ الشابي إلى ذكرياته مع الطبيعة الخلابة كظل ظليل هروباً من لفح الحياة وهجيرها. وفي رحلة عذبة يأخذنا معه إلى ( جنته الضائعة )، ذلك العالم الساحر الرقيق رقة الزهور، وبسلاسة شعره المعهودة نجده يصف لنا ( جنته ) التي كان يعيشها في ذلك العهد الفضي الأسحار، المذهب البكور - كما يصفه - إنه عالم طفولته والصبا، وكيف كانت أيامه في طهارة الموج وسحر الشاطئ ووداعه العصفور وأناقة النحل وأعشاش الطيور المسقوفة بالورد، وأغاني السواقي، ورقص البلابل وروعة النهر الكبير. كم من عهود عذبة في عدوة الوادي النضير فضية الأسحار مذهبة الاصائل والبكور كانت أرق من الزهور، ومن أغاريد الطيور وألذ من سحر الصبا في بسمة الطفل الغريرأوتي الشاعر أبو القاسم الشابي ملكة قوية في تصوير مظاهر الطبيعة وخلجات النفس والمشاعر الملتهبة فجعل لمفردات الطبيعة أرواحاً وحياة، فالشعر عنده وسيلة للتنفيس ومنطلق لأشجانه، وتعبير عن أحلامه التي فقدها في ظل مرحلة مرضه وظروفه الاجتماعية التي أثرت كثيراً في استقراره النفسي. أيام كانت للحياة حلاوة الروض المطيروطهارة الموج الجميل وسحر شاطئه المنير ووداعة العصفور بين جداول الماء النمير أيام لم نعرف من الدنيا سوى مرح السرور وتتبع النحل الأنيق وقطف تيجان الزهور وبناء أكواخ الطفولة تحت أعشاش الطيورمسقوفة بالورد والأعشاب والورق النضير ونعود نضحك للمروج وللزنابق والغدير ونعيد أغنية السواقي وهي تلغو بالخريرنشدو ونرقص للبلابل، للحياة وللحبور ونظل ننثر للفضاء الرحب والنهر الكبير واستطاع الشاعر في هذا النص ( الجنة الضائعة) من ديوان ( أغاني الحياة )، أن يصور كل مغامرات الطفولة البريئة في لوحة تصويرية فنية جميلة، وكأننا نرقب أمامنا أولئك الأطفال وهم يعيشون بكل ما أمامهم .. ليس لهم هدف سوى اللعب والمرح. ونظل نعبث بالجليل من الوجود، وبالحقير بالسائل الأعمى وبالمعتوه والشيخ الكبيربالقطة البيضاء، بالشاة الوديعة، بالحمير بالرمل، بالصخر المحطم، بالجداول، بالغدير واللهو، والعبث البريء، الحلو، مطمحنا الأخيرومن هنا نجد كيف أن شعر الشابي قد امتاز بالعذوبة والسلاسة والتدفق الشعري، والتعابير الأنيقة السهلة الخالية من الغموض، فيجد فيه المتلقي حسناً وعاطفة وبالتالي يتجاوب معه ويعيش عالمه. ونظل نقفز، أو نثرثر أو نغني أو ندور لانسأم اللهو الجميل وليس يدركنا الفتور وكأننا نمشي بأقدام مجنحة تطير أيام كنا لب هذا الكون والباقي قشور أيام تفرش سبلنا الدنيا بأوراق الزهور وتمر أيام الحياة بنا كأسراب الطيور وترفرف الأفراح فوق رؤوسنا أنى نسير وبعد رحيل كل ذلك أصبح الشاعر يحيا مرهق الأعصاب، متأجج الأحساس - كما تصوره الأبيات الأخيرة من النص - تؤرقه كل صغيرة وكبيرة، وفي تصوير رائع يصف حجم معاناته: تمشي على قلبي الحياة ويزحف الكون الكبير وهكذا هو أسلوب الشابي، يأخذنا بخفة إلى عالمه (الرومانتيكي ) المسحور، ويمر الوقت وتمضي بنا المرحلة إلى نهايتها.. ويغادر الحلم، ولكن تظل الحواس لا تستفيق من تلك النكهة التي اقتحمت الوجدان بما تضمنته من حيوية الصورة وتوهج العاطفة. هذا حصادي كله في يقظة العهد الأخيرقد كنت في زمن الطفولة والسذاجة والطهور أحيا كما تحيا البلابل والجداول والزهور لا نحفل، الدنيا تدور بأهلها أولا تدور واليوم أحيا مرهق الأعصاب، مشبوب الشعور متأجج الإحساس، أحفل بالعظيم، وبالحقير تمشي على قلبي الحياة ويزحف الكون الكبير