نبض القلم
ؤب أمسكت الأم بيديها الرقيقتين طفلها وهو يبكي، فاحتضنته بحب، وضمته إلى صدرها، وألقمته ثديها، وهي تدعو ربها قائلة: “اللهم أجعل ابني مطلوباً لا طالباً” فسمعتها صديقتها الجالسة بجوارها وهي تدعو بهذا الدعاء وتكرره عدة مرات، فأنكرت عليها ذلك، ثم قالت مستنكرة: “ما أعجب دعاءك أيتها المرأة! أتريدين ابنك أن يكون مطلوباً لا طالباً؟ هل تريدينه أن يصبح مجرماً تلاحقه أجهزة الأمن والشرطة، ومطلوباً لدى العدالة لكونه من المجرمين؟ ما هذا الدعاء السخيف؟ كفي عن دعائك هذا”.فقالت الأم: “أنا أدعو الله - وهو أعلم بالسرائر - أدعوه أن ينجح أبني في تعليمه، ويعلو جاهه، ويرتقي شأنه وقدره بين الناس، وليحظى بمكانة رفيعة في مجتمعه، وحينذاك سيأتيه الناس لقضاء حوائجهم، ويطلبه الحكام لاستشارته في الأمور المستعصية لرجاحة عقله، وصواب رأيه، فهل فهمت مغزى الدعاء الذي سمعتيه يا صديقتي؟”.قالت الصديقة: “أنت خيالية يا صديقتي، ما تدرين شيئاً عن واقع الحال في مجتمعنا، إنك تعتقدين أن الأخيار هم الذين يعتلون سلالم المجد، وتظنين أن الأذكياء والمجدين هم الذين يستشارون، أو يعتمد عليهم في بناء الوطن وتطويره، أو أن لهم حظوة في مجتمعهم، أفما سمعت قول القائل:[c1]لا تسألن عن الكفاءة إنها أسطورة في عالم التدجيلإن كنت ذا حظ لكسب وجاهة فنديم كأس أو زميل مقيل[/c]ولا عجب أفما رأيت بعض الجاهلين والخاملين والمنافقين قد اعتلوا في الحياة اعتلاء عجيباً وغريباً، من دون علم ولا كفاءة، ولكنهم وصلوا إلى مواقعهم الرفيعة، والتي بها احتلوا مكانة رفيعة في مجتمعهم، ليس باتباعهم الطرائق المشروعة، ولكن باتباع أحط الوسائل وأقذرها، يحركهم الطمع، ويسيطر عليهم الجشع، فأمضوا معظم حياتهم يلهثون في طلب السلطة والجاه، وفي سبيل هذا الطلب أراقوا مياه وجوههم، وارتكبوا العديد من المآثم والجرائم،فحصلوا على جاه كاذب، وشهرة زائفة لذلك لاغرابة إن رأينا بعضاً من هؤلاء قد أصبحوا عبيداً أذلاء لشهواتهم وأموالهم ومناصبهم، يكثرون من الشكوى ويتذمرون من أية تحولات تضر بمصالصهم، أو تحد من سلطاتهم ، ولا عجب أن يتحول بعض هؤلاء إلى معارضة لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب ، ذلك أنهم تعودوا أن يكونوا طالبين فتلبى مطالبهم، ليقينهم أنه لن يكون أي منهم مطلوباً لذاته، لافتقاره إلى ما يستدعي طلبه في الظروف الطبيعية التي يكون المجتمع فيها محتاجاً إلى الكفء ذي القدرة وإلى صاحب الخبرة، لا إلى الانتهازي والمنافق.قالت الأم: “من أجل ذلك لا أريد أن يكون ابني طالباً الناس كما يبحثون عن الألماس، فالرجل المطلوب يكون عزيز النفس كريم الطبع، رفيع الهمة، لا يذل نفسه، ولا يحط من قدره، ولا يتغير بتغير الظروف، بل يظل محافظاً على ماء وجهه، مردداً قول الإمام الشافعي:[c1]أمطري لؤلؤاً سماء سرنديبوفيضي جبال تكرور تبراأنا إن عشت لست أعدم قوتاًوإذا مت لست أعدم قبراهمتي همة الملوك ونفسينفس حر ترى المذلة كفرا[/c]وأنهت الأم حديثها بالقول: اعلمي يا صديقتي أن الإنسان المطلوب هو الإنسان النافع فهو لو لم يكن كذلك لما حرص الناس في طلبه، فهو الذي يجب أن نبحث عنه الآن، ونطلبه ليساهم في عملية البناء، ولا نتجاهله، وهو الذي يتحقق التغيير على يديه، ويكون مساهماً في التنمية، ومشاركاً في تطوير الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.