بالرغم من أن المشهد الشعري لم يفق من صدمة مسمى (قصيدة النثر) لحد الآن، وهو مسمى لا يزال يتفاعل ويثير الكثير من الجدل، ويفتح حوارا متعدد الاتجاهات مع المسمى أو ضده أو حتى نجد من لا يبالي بالمسمى إطلاقا ويتلقاها(أي قصيدة النثر) كما هي بعيدا عن سموم وأعاصير المصطلحات كي لا يفسد متعة تلقيها ، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن أدونيس وهو أحد روادها الأوائل قد طرح مسمى (كتابة الشعر بالنثر) وهو مصطلح أكثر بلبلة من الأول برأي الناقد حاتم الصكر لتأكيد الحاضنة الشعرية لها، أقول رغم كل ذلك يفاجئنا الشعراء بمفاجأة أخرى وهي ما يسمى بـ (قصيدة الشعر) التي تثير أيضاً أسئلة مضافة عن جدوى الاسم وجذوره وكذلك شرعيته.عن بدايات قصيدة الشعر وعن ظروف نشوئها و الدعوة إليها يخبرنا بذلك د.فائزالشرع وهو من روادها والمنظرين لها قائلاً:(كما يتشقق التراب عن بذرة غادرت الكمون والانغمار بعيدا عن السطح، حيث الضوء وممارسة النضوج مثلما تفعل أي شجرة عملاقة، لم تكن الانطلاقات الشعرية لدى أي جيل وأي اتجاه - ومنه الشعراء الذين انتدبوا أنفسهم لكتابة نوع متميز من الشعر، توافقوا على مقترح أن يكون قصيدة شعرـ بعيدة عن تقمص دور النضوج في الرؤية والوسائل والتجربة، سواء أكان هذا الشعور انعكاساً لقدر من التضخم الذاتي أو الجماعي، أم كان حقيقة استطاعت النباهة المبكرة أن تلتقطه، لكن تكثيف السعي في منطقة الاشتغال على إنتاج نموذج متميز يحقق استقلالية الصوت، بعد اكتساب القدرة على إصدار ذلك الصوت (اكتمال عدة الكتابة الشعرية)، كان الحافز الأشد تأصلا في الممارسة الكتابية لأقطاب ذلك التجمع الحميم).لو رفعنا الإطار الإنشائي للقول أعلاه مع استطالاته المبهمة على مستوى الصياغة سنفهم منه أن هنالك مجموعة من الشعراء انتدبت نفسها لكتابة نوع متميز من الشعر أسموه بـ (قصيدة الشعر)، وبالرغم من أن هذا النوع المتميزمن الشعر (بحسب ما يقول الداعون إليه) يدعو إلى عمل قطيعة جمالية مع ما هو موجود من شعر سواء مع ما يسبقه زمانياً أو مع ما يجاوره زمنيا ليكون متميزا، لكن الشعراء الداعين إليه هم من التواضع ما يجعلهم بعيدين عن تقمص دور النضوج في الرؤية والوسائل والتجربة، وهم بذلك يحاولون أن ينأوا بأنفسهم عن أية نرجسية متضخمة قد تورطهم بها ذواتهم الإنسانية؛ أو هو فعلاً موجود عندهم التقطوه نتيجة نباهتهم، ولكنهم وطنوا أنفسهم على إنتاج نصوص متميزة ومغايرة لتحقق مقولاتهم أعلاه لتتفق مع ما كانوا قد أعلنوه في بيانهم، وهذا ما سيلفت أنظار الجمهور والنقاد إليهم وكذلك سيكون حافزاً لاستمرارية تجمعهم.بالطبع عندما يرتبط التجديد والتغيير بنظرة فاحصة يقودها وعي حاد بضرورة التغيير، سوف لن يعترض عليه أحد، ولكن أحيانا عندما يسبق التنظير لما هو غير متحقق كتابيا سيكون من العسير تقبله، وبالتالي سيكون علينا أن نتابع الجماعة لكي نرى كيف تعاملوا مع وليدهم الجديد وهل هو وليد شرعي أو ملفق، فعن البدايات أو بواكير هذا المشروع نعرف (أنه كان بعد منتصف العقد التسعيني من القرن الماضي ضمن رابطة الرصافة للشعراء الشباب، حيث دأب فيه الشعراء على دراسة الشعر والنقد دراسة فاحصة وذلك عن طريق التحليل الجماعي لأهم القصائد في الشعر العراقي والعربي، فضلا عن نماذج من الشعر العالمي).وهذا يعني أن المشروع كان جماعيا أشترك فيه شعراء لهم تجربة في الكتابة والنشر وآخرون كانوا مفتقرين لأبسط عناصر الوعي، ولكن السؤال المطروح هو: إذا كان شعراء الجماعة في بداية حياتهم الكتابية ؛هل يمكن لهم أن يخالفوا السائد الكتابي؟، أو هل كانوا مهيئين فعلاً لكتابة نوع جديد من الشعر؟، ولو تركنا الإجابة عن هذا السؤال واستمرينا مع الجماعة في بداياتها ، نعرف أنهم قاموا بتوثيق ما كانوا قد أنجزوه في مشغلهم ، في منشور أشرعة سنة 1997م، وتطور حتى وصل قمته في العدد السادس حيث أعلنت فيه (قصيدة الشعر)، وبعد ذلك انفرط الجمع بعد قطاف ثمار المنجز وليتفرقوا لدواع اجتماعية وثقافية.يقول الصحفي والناقد ناظم السعود بوصفه شاهدا على المرحلة التأسيسية :( ومن بين الأفكار التي نالت استحسان الجميع فكرة (قصيدة الشعر) التي ثورها أولا الشاعر والناقد فائز الشرع وحينها لم يكن المصطلح ثابتا في أذهان المجموعة، وملخص الفكرة هي أن النثر تطور واكتسى بكسوة الشعر، فهل يبقى الشعر موقوفا على ما قاله الأقدمون، أم ينبغي أن يكون للمحدثين رؤى جديدة تحرك الراكد من الشعر، ومن خلال المناقشات طرح الشاعر والناقد فائز الشرع المصطلح فاستحسنه كثيرون من الأعضاء).ومن هنا نفهم أن مجموعة شعراء قصيدة الشعر تتكئ على فكرة رجراجة وهي (أن النثر تطور واكتسى بكسوة الشعر)، وهي فكرة خطيرة لو تم تبنيها تحت هذا الفهم، لأن شعراء (قصيدة النثر) يقولون إن الشعر هو الذي تطور إلى قصيدة النثر وليس العكس، وهذه إشكالية أخرى تدل على قصور فهم من قبل الجماعتين، فكل منهما ينظر إلى الأمر من الزاوية التي تخدم مشروعه، وهذا يقودنا إلى حقيقة قد تكون مرعبة وهي أن قصيدة الشعر إنما تمثل رد فعل على قصيدة النثر، وليس لكتابة قصيدة متميزة عن السائد الكتابي، كما أنها مبنية على فكرة رجراجة هي تطور النثر ليلبس ثوبا شعريا، ولكن إذا سلمنا جدلاً بأن لكل فعل رد فعل، فالسؤال هو هل كان رد الفعل بمستوى الفعل؟ وهل صمدت مبرراته حتى بين شعراء الجماعة أنفسهم؟. يبدو أن بعض الشعراء في المجموعة كانوا يرتؤون مسمى آخر غير (قصيدة الشعر)، واقترحوا مصطلح (العمودي الجديد) وهؤلاء الشعراء هم مضر الآلوسي ومحمد البغدادي وعارف الساعدي وبسام صالح مهدي، ولكن المجموعة الأخرى وهي الأكبر عدديا فضلت مصطلح قصيدة الشعر، وتضم كل من فائز الشرع ومهدي راضي ومشتاق عباس ونوفل أبو رغيف وعلي محمد سعيد ومهدي جاسم وعلاء جبر وإحسان التميمي وحسن عبد راضي، وهؤلاء كانوا لا يرون التجديد في العمودي فقط بل أرادوا أن يتعدى إلى شعر التفعيلة لذا فضلوا مصطلح قصيدة الشعر.لقد أعلنت المجموعة البيان الأول - في ملتقى الرصافة الثاني الذي أقامه الاتحاد العام لشباب العراق في العام 1999م، بالتعاون مع الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، على ثلاث حلقات، قدم الحلقة الأولى الناقد فائزالشرع تحت عنوان (قصيدة الشعر بين الوجود المتحقق والوعد المنتظر: مدخل تعريفي بالنوايا والإرهاصات)، وقد قدم الحلقة الثانية الشاعر مشتاق عباس معن وهي حلقة تطبيقية على قصيدة العمود وكانت تحت عنوان (قصيدة البيت بوصفها شكلاً من أشكال قصيدة الشعر:مقاربة تحليلية)، أما الحلقة الثالثة فكانت عن شعر التفعيلة وقدمها الناقد مهدي جاسم بعنوان (دراسة تطبيقية في بعض نماذج قصيدة الشعر: قصيدة التفعيلة أنموذجا).ويبدو أن المبررات التي سيقت لولادة قصيدة الشعر لم تعمر طويلاً ودب الخلاف بين أفرادها، ولم تبق المجموعة على حالها إذ سرعان ما انشطرت إلى مجموعتين، حيث ضمت الأولى عارف الساعدي وبسام صالح مهدي ومضر الآلوسي ومحمد البغدادي ورشيد حميد وانضم إليهم أجود مجبل ونجاح العرسان، وأصدروا بيانا في العام 2000م أكدوا فيه أن يقتصر التجديد في العمودي ومعارضة قصيدة النثر بوصفها لا تنتمي للشعر، بينما أعلنت المجموعة الثانية عدم معارضتها لقصيدة النثر ، وقد أكدوا ذلك في بيان المراجعة الذي أصدروه في القاهرة سنة 2005م، وأكدوا الخصائص الفنية والفكرية ذاتها، ومن أبرز أسمائها فائزالشرع ونوفل أبو رغيف ومشتاق عباس معن وعلي محمد سعيد وحسن عبد راضي ومهدي جاسم وعلاء جبر وإحسان التميمي وانضم إليهم قاسم السنجري وطاهر الكعبي.ولكي تنأى الجماعة الثانية كليا عن المجموعة الأولى فقد أصدرت بيانا آخر تحت عنوان (الجنس الرابع) في العام 2008م، ذهبت فيه إلى أن قصيدة النثر تمثل جنساً أدبياً جديداً في الأدب العربي مضافا إلى جنس الشعر وجنس السرد وجنس الدراما، وبالتالي فقد سجلوا لأنفسهم موقفاً يختلف عن الجماعة الأولى وهو عدم مضادتهم لقصيدة النثر. لأن قسما منهم يكتبونها من مثل الشعراء حسن عبد راضي ومشتاق عباس معن وعلي محمد سعيد.إن الجماعتين غير مختلفتين جوهريا اتجاه قصيدة النثر، فالأولى لا تعتبره شعراً، والثانية قالت بأنه جنس رابع وهذا يعني أنه لا ينتمي للشعر أيضاً، وهما أي كلتا الجماعتين تعتبرانه تطورا للنثر باتجاه الشعر وليس العكس، كما أن الأولى ارتأت تجديد الشعر العمودي، لكن الثانية أرتأت تجديد الشعر العمودي والتفعيلة، ويبدو لي أن الجماعتين متفقتان جوهرياً على فصل الشعر عن النثر وهما محقتان بذلك، لذا فهما أوقفتا التجديد على الشعر فقط، أما الاختلاف المهم فهو أن الأولى اكتفت بتطوير العمود، والثانية أضافت شعر التفعيلة إليه، وبالطبع فإن هذا الاختلاف يبدو محيراً للباحث، ويثير سؤالاً هو هل أن شعر التفعيلة عند هذه الجماعة لا يمثل شعراً بالنسبة لهم، وإذا صح ذلك فهذا يعني أنها حركة متشددة لا تعترف حتى بتجديد الرواد (نازك والسياب) وهي حركة اجتازت شرعيتها ولم يعد بمقدور أي جماعة أن تنكرها لأنها تمثل لحظة الحداثة الأولى في الشعر العربي، أم أنها قد أوقفت تجديدها على العمود لأنها معنية به فقط ولرد الاعتبار له لأنه تعرض إلى ضربات ساحقة من قبل الرواد، لذا فهي تريد أن تكتب شعراًَ متميزا من خلال العمود لأنه برأيها شكل يمكن أن يستوعب أية تغييرات غير شكلية (موضوعية أو بلاغية أو إيقاعية) مع احتفاظه بشكله.
أخبار متعلقة