نبض القلم
لقد أمر الله تعالى نبيه محمداً ( صلى الله عليه وسلم) ألا يستبد بالأمر فقال له ( وشاورهم في الأمر ) (آل عمران 159) ومعنى ذلك أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم) باعتباره قائداً للأمة مطلوب منه أن يشاور ذوي الاختصاص والكفاءة والخبرة في كل أمر من أمور الحياة الدنيوية ، لأن لكل فرد في الأمة الحق في إبداء الرأي وإمعان النظر في القضايا التي تخصه ، حتى يشعر كل مسلم بأنه في أمة تحترم وجوده كعضو فاعل في وسطها، وأن لرأيه أهمية في تدبير الأمور واتخاذ القرارات.ولقد حرص النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يجعل أصحابه وأتباعه ومعاونيه أشخاصاً فاعلين يفكرون ويستفسرون ويناقشون ويعترضون ، يتحركون ،وليسوا واقفين، لم يتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم من أصحابه أدوات صماء في يده، ولا آلات خرساء ، تتحرك بمشيئته ، بل كان يعرض عليهم الأمر ، ويشاورهم فيه، ويكون كأحدهم يبدي رأيه فيما لا تشريع من السماء بخصوصه ، وكان في كثير من الحالات يختار رأيهم ويترك رأيه. ولقد رأينا كيف بارك جهود الشباب من صحابته ، فأستمع إليهم ،واستجاب لهم، وأوكل إلى بعضهم أعمالاً جليلة ومهام جسمية ، مما يدل على أنه ما كان يريد الاستئثار بالأمر لنفسه، ولا يريد السلطة لذاته، بل سعى لأن يكون كل واحد من أصحابه صالحاً للقيادة والرئاسة ، حتى إذا ما أسند إليه أمر من أمور المسلمين نهض به ، وأداه باقتدار. وما يؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد واحدة على من سواهم ).لقد أثمرت تلك التربية القيادية الاستقلالية ، التي أرسى قواعدها نبي البشرية محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم ، فأينعت ثمارها ، وتفتحت أزهارها النضرة، وأخرجت لنا أبناء المدرسة المحمدية الأولى ، الذين ارتفعوا في العلا والمجد حتى لامسوا الثريا ، وكانوا مع ذلك متواضعين ، فلا يستبدون ولا يستأثرون بالسلطة والحكم ، ولا يرونها تشريفاً بل يعدونها تكليفاً ، وكانوا يؤمنون بأنهم محاسبون أمام الله وأمام الناس ، وأنهم لا يطاعون طاعة عمياء، بل يطاعون عن إيمان وقناعة ، لذلك كانوا لا يضيقون بمناقشة أو معارضة وكان تلاميذ مدرسة النبوة في القيادة لا يفرون من حساب ، ولا يتبرمون من مراجعة، ولا يدعون لأنفسهم التميز والقدرة على كل شيء بل لو تصرف أحد الرعية تصرفاً سليماً، حمدوه وغفروا له ، ولو كان ذلك التصرف بغير إذن منهم ، ولو تصرف تصرفاً سيئاً عذروه وصفحوا عنه .وهذا عمر بن الخطاب الخليفة الراشد الثاني كان يثق برعيته فتثق به رعيته ، ويأتمن جنوده على كنوز الأرض وخيرات الفتوحات ، فلا يخونونه في قليل أو كثير ، وكان يرسلهم فاتحين ،ولهم حريتهم في التصرف ، فيفتحون ويغنمون ويحملون إليه ذخائر كسرى وكنوزه وجواهره فيقول عمر معجباً : إن الذين أدوا هذا لأمناء حقاً ، فقال أحد الحضور: يا أمير المؤمنين ، إن القوم رأوك عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا.وهكذا كانت القيادة في الإسلام مغرماً لا مغنماً ، وتعباً ونصباً ، لا زهواً وتعالياً، كانت تعاوناً ومساندة ، لا تجبراً واستبدادا ، وبذلك عزت الناس ، وأدوا واجباتهم ، فعزت الأمة وسادت ، ولم تخضع الجباه إلا لله الواحد القهار.[c1]*خطيب جامع الهاشمي بالشيخ عثمان [/c]