أخذت حيزاً واسعاً وجلياً من حياة الرجال والشعراء في الشعر العربي
محمود أسد:من مطلع بحثنا الموجز نجزم بأن المرأة تشغل الكثير من ذهن وعالم الرجل بشكل عام. وتتملك الكثير من عالم وتجربة المبدعين بشكل خاص. ولا نستطيع أن ننكر الحالة الثانية المعاكسة. فكلاهما صنوان يكملان معادلة التوازن في هذا الوجود. والرجل بما وهبه الله من جرأة وبما منحته الأعراف والمجتمعات من مساحات، يستطيع دخولها والعبور منها والتعبير عنها، ولن تمنح مثلها المرأة. فبدا لنا أكثر اقتراباً وبوحاً عن تجربته التي أصبحت مألوفة لدى الآخرين ومستساغة. بعكس المرأة التي يضيقها الحياء والحشمة والخوف من لسان الناس، والتي تتحكم الأعراف والعادات بتصرفاتها وعواطفها، فإذا أطلقتها على الملأ تعرضت لسهام النقد والتعرية والمحاسبة. فقام بهذا الدور الرجل. فلم يخف الكثير من الشعراء حبهم للنساء وعلاقاتهم بهن على مختلف ميولهم ومكانتهم وثقافتهم. فعبر الشعراء عن هذه الجاذبية والسحر القادر على أسر الرجال فقال محمد بن عبد الله رزين:شكوت ما بي إلى هند فما اكترثت يا قلبها! أحديد أنت أم شجر ؟إذا مرضنا أتيناكـــم نعودكـــــــم [c1] *** [/c] وتذنبـــون فنأتيكم ونعتذر وهناك بيت لشاعر آخر: إن النساء ريـــاحين خلقن لكــــم [c1] *** [/c] وكلكم يشتهي شم الرياحينهذا واقع الحال بين الرجل والمرأة، تقر به الدواوين وتجارب المبدعين. فلا غرابة أن تأخذ المرأة حيزاً واسعاً وجلياً من حياة الرجال والشعراء في الشعر العربي عبر عصوره المتعاقبة. فما أكثر الشعراء الذين ارتبطت تجربتهم بمحبوبتهم، لأجلها نالوا العقاب، ودخلوا السجن وتعرضوا للموت والجنون.. فما زالت مصدر إلهامٍ للمبدعين، فهي مبعث الفرح والحزن، ومنهل النجوى والأمل، ومبعث الحيرة، والقلق. وعندما تذكر المرأة فتقدم لنا حبيبة وأماً ومناضلة وإنسانة لها إحساساتها وطباعها وأهواؤها التي تتحكم بمسارها وعلاقاتها مع الآخرين.هذه مقدمة سريعة ومبسطة للولوج إلى عالم المرأة في شعر عمر أبي ريشة.. هذا العالَم الغني الواسع والمتنوع والمثير للكثير من الأسئلة الموحية. هذا العالَمُ الذي يدعونا للغوص في أعماقه وتفحص ما فيه وقد لا يسمح المجال.. ولا أدعي بأنني متفرد ببحثي فهناك أكثر من دراسة تعرضت للمرأة في شعر أبي ريشة استفدت منها اقتراباً وبعداً وإيحاءً موافقاً ومعترضاً كدراسة الناقد محمود منقذ الهاشمي (عمر أبو ريشة فارس الشعر الرومنتي) ونشرت في مجلة الموقف الأدبي عدد 138 - 139 /1982 ومقالة (عمر أبو ريشة كما عرفته) في مجلة الثقافة الدمشقية والعدد الخاص الصادر عن مجلة الضاد الحلبية /أيلول/ 1991 إضافة للديوان الذي اعتمدت عليه كل الاعتماد.. والديوان صادرٌ عن دار العودة عام ألف وتسعمائة وواحد وسبعين.وقد أرخ الشاعر قصائده والتي تنتهي عند عام ألف وتسعمائة وسبعين. وقد وعد الشاعر بإصدار المجلد الثاني ولما يصدر. ولذلك هناك تجربة غنية وقصائد كثيرة من شعره، لم أستطع الاطلاع عليها، ونحن بحاجة إليها لكشف ما فيها من تجارب تخص الشاعر في آخر مراحل العمر الحافلة بالتجارب. وننتظر من يقدمها للنقاد والقراء لأنها من حق المجتمع والتاريخ..، ولتكتمل الدراسات وتتصف الآراء والدراسات.. في الديوان المذكور آنفاً قصائد كثيرة صنفت تحت عنوان: (هي) وهي قصائد تخص الأنثى وتبلغ اثنتين وسبعين قصيدة متفاوتة الطول ولكنها تميل إلى المقطوعات القصيرة وهذا ما يميز شعره. وهذا لا يعني أنه لم يذكر المرأة في الأقسام والدواوين الثانية بل خصها في شعره كموضوعات مستقلة أو بشكل عارض.. وهذه القصائد تتناول المرأة بعوالمها المختلفة، وبحالتها النفسية التي تعج بالانفعالات.. قدم الشاعر رؤيته في المرأة عن قرب ومن زوايا حياتية ونفسية مختلفة.. نحتها في قصائده كما نحت النحات تمثاله. اقترب منها، وهو يملك موهبة لا تجارى من رقة ألفاظ وخصوبة خيال وغنى في التجربة.. قدمها خجولة ومستسلمة وبنت هوى وعفيفة وحاقدة ومظلومة ورغم هذا لم يجرح عفتها ولم يقدمها رخيصة مبتذلة وأنا أقول إلى حدٍّ ما بالمقارنة مع الشاعر نزار قباني وغيره.. قدمها لنا من خلال تكوينه الاجتماعي والنفسي الذي يميل إلى التمسك بالجلال والكبرياء والعفة والرزان الذي يبدو على محياه.. وهذا ما دفعه للغضب والثورة عندما كانت تخرج عن هذه القيم والمفاهيم. ولكن غضبه معتدل يتركه في دائرة العقل والتوازن فلا يصبّ شتائمه ولا ينشر غسيلها، وهذه أحكام اتكأ عليها كثير من الدارسين له، ولكنها ليست قاطعة فهناك مواقف ستمر معنا ترسم لنا شيئاً من هذا.. والشاعر يميل إلى التوازن في علاقته مع المرأة فلا يغيب جمالها وحسنها عنه ولكنه يكتمل بمواقفها الراقية التي يحبها.دائماً يربط جمال الحالة والجسد مع جلال الموقف فلا يطغى الوصف الحسي على قصائده، وإن وصف تقاطيع الجسد فإنه يحرص على السمو أمام فتنة الروح والمعنى، وهنا تكمن أهمية تجربته مع المرأة. فلا يجرحك، ولا يثيرك. يمس المرأة بلطف، ويتقصاها كخبير قريب. قدم المرأة لوحة تضج بالحركة والانفعال وتتقمص الحالة التي عبر عنها.. تدعوك للتأمل أمام حالتها، فتشفق عليها وهي منحرفة.. وكانت المرأة إسقاطاً لرؤيته وبوحاً عما في نفسه. في قصيدته (في طائرة) أثناء رحلته إلى الشيلي كانت إلى جانبه حسناء إسبانيولية، حدثته عن قومها القدامى من العرب دون أن تعرف جنسيته.وثبت تستقرب النجم مجالاً [c1] *** [/c] وتهادت تسحب الذيل اختيالاًوحيالي غــــــادة تلعب فـي [c1] *** [/c] شعرها المائج غنجــــاً ودلالاًطلعة ريا، وشيء بــــــــاهر [c1] *** [/c] أجمال ؟ جل أن يسمى جمالاًفدقة في الوصف وروعة في تقديم المشهد ثم تتصاعد الأحداث:قلت يا حسناء، من أنتِ ومن [c1] *** [/c] أي دوحٍ أفرع الغصن وطــالاًفرنت شامخــة، أحسبهــــــا [c1] *** [/c] فوق أنساب البرايــــا تتعـلىوأجابت أنـــــــا مـن أنـدلسٍ [c1] *** [/c] جنة الدنيا سهــولاً وجبـــــالاوجدودي ألمـح الــدهر على [c1] *** [/c] ذكرهم يطوي جناحيه جلالابوركت صحراؤهم كم زفرت [c1] *** [/c] بالمروءات راحـــــاً ورمـــــالاإلى أن تقول:هؤلاء الصيد، قومي فانتسب [c1] *** [/c] إن تجد أكرم من قومي رجالاً!أطــرق القلب وغـــامت أعيني [c1] *** [/c] بــــرؤاها وتجــاهلت السؤالا..والبيت الأخير يختزل الكثير مما انتابه ومما يريد قوله. وفي هذه القصيدة يتعانق الجمال الشفاف الموحي الذي عبر عنه حديث الفتاة ونضجها مع جلال الموقف وهذا ما جعل أبا ريشة يسقط أفكاره على لسان المرأة. وكثيراً ما كان يلجأ إلى الأسلوب القصصي الذي يتقن استخدامه وتوظيفه فيهتم بالسرد والحوار واللحظة والدهشة والقفلة دون إغفال للمكان أو الزمان. ولو اقتربنا من المصطلحات والتعريفات الحديثة لقلنا أنه يكتب القصة القصيرة جداً أو قصيدة الومضة. وهذا شاهد على ذلك في مقطوعته (جميل منك) ومؤلفة من بيتين.حكاية حبنـــا ختمت [c1] *** [/c] فما أشجى وما أقسى جميل منك أن تعفي [c1] *** [/c] وأجمل منـه أن أنسى وتبدو هذه الحالة في قصيدة (قطرة الزيت).لن تعثري عبر الدجى.. إنـه [c1] *** [/c] أسنى ســراج كان في بيتي!حملته في غفلتي، بعدمـــا [c1] *** [/c] أسرى بــــــك التيه وأسريتوما تلفت به، صوب مـــــــا [c1] *** [/c] أضحكت من عمري، وأبكيتليتك.. لما سرت في نـــوره [c1] *** [/c] ذكـــــــرت فيه قطـرة الزيتويتجلى الجانب القصصي المليء بالمشاهدات والمشاهد والانفعالات وتعدد الأماكن في قصيدة (دليلة) وفيها يحسن التقاط اللحظة وتوظيفها، ولا يقدم نفسه شاعراً وصّافاً للجسد فحسب بل شاعراً يستغرق في الحالة النفسية من خلال سرد متنام وموظف. وقسم القصيدة إلى مقاطع متدرجة الأحداث وتدور أحداثها في فيينا حيث عمل سفيراً. ويصف نهر الدانوب حيث اللقاء وفيها وصفٌ للملهى والمغني والمكان. ومن ثم العودة إلى بيت صديقته والمفاجأة الصارخة فيقول:عشيت مقلتاي حين تــــــراءى [c1] *** [/c] لي طيفان يبغيان دخولـــــهقد سمعت الصدى لقبلة عربي [c1] *** [/c] د وسكرى وفاجر وخليلـــــــة وتراجعت تاركاً في سمــــــــاعِ [c1] *** [/c] الليل أشلاء قهقهاتٍ طويلةإلى أن يقول:مزقي هـــــذه الرسالـــــــة إني [c1] *** [/c] قلت فيها.. ما لم أرد أن أقولهليس في هيكلي مجال لشمشو [c1] *** [/c] ن جديد فعربدي يـــــا دليلــة وهنا ينتصر النقاء العربي وكبرياء الرجل العربي الذي يأبى أن يكون شاهداً على الفجور والعهر وكيف يحتمل الغدر والخيانة؟ وقد صدق ظنه من مطلع القصيدة:لم أصدق حين قلـت: سيأتيــك [c1] *** [/c] وألقاك في فيينا الجميلةشاعرنا محب وعاشق للجمال، ولكن لا يحبه مستهتراً ومتخلياً عن القيم. ومع هول اللحظة وما فيها من الخيانة والغدر لم يشأ أن يلقي التهم والشتائم بل ثار حفاظاً على كبريائه محافظاً على قدسية الجمال وهو القائل:(لم أجرح كبرياء امرأة، فالمرأة جمالٌ وللجمال قدسية وإني لأجد في عبارات (فاجر وخليلة - عربدي.. مزقي) الكثير من التعبير الموحي والذي يغني عن الشتائم).ومع تسامح الشاعر بالكبرياء والأنفة انتابته حالات من الضعف والاستكانة تدعو للتساؤل عن أسبابها بدا في قصيدة (لن أرمي به).لم أزل أسحب قيدي متعبـــــاً [c1] *** [/c] وجراحي لــم تزل تشتم قيـــديأنا أقبلت عليه راضيــــــــــــــاً [c1] *** [/c] بعدمـا غيبت في عينيــك رشديكم تغاضيت حياء، كلمـــــــــــا [c1] *** [/c] أومأت لي من كوى الإشفاق أيـــدكل أهوائك كانت بدعـــــــــــة [c1] *** [/c] من غوايـــــاتٍ، عنيداتٍ التحديأخذت من كبريــائي ما اشتهت [c1] *** [/c] وتــــــلهت بتبــــاريحي ووجـــديمــــا تبقى.. غيـر هذا القيد لي [c1] *** [/c] في بقايا الليل .. من همٍّ وسهدِإنــــه عمري.. فلن أرمي بـــــه [c1] *** [/c] لا أطيق السير في الوحشة وحديويبرز ضعفه مرة أخرى وبشكل مثير للريبة وكأننا لسنا مع شخص أبي ريشة الذي عهدناه أبياً.. في قصيدة (إن ذكرت).وتسائليني! ما يريحك ؟ [c1] *** [/c] ما أجيبك ؟ لست أدري!غالبت فيك غوايتي .. [c1] *** [/c] فخسرت فيها كل كبري وتبعت طيفك عاقداً [c1] *** [/c] بالذيل منه زمام أمريكم وقفة لي دون دارك [c1] *** [/c] خضبت بالذل صبريوغضضت من طرفي، كأني [c1] *** [/c] ما لمحت خيال غيري!كم ليلة حرى، على [c1] *** [/c] إغرائها، أرخصت خمريوأهنت تحت لهاثها [c1] *** [/c] ما كان من زهري وعطريوتسائليني. ما يريحك؟ [c1] *** [/c] ما أجيبك؟ لست أدريأنا إن ذكرت نشرت عاري [c1] *** [/c] أو نسيت طويت عمريفي هذه القصيدة يبرز الشاعر الصراع ويصطاد إحدى الحالات الصاعقة في حياة الرجل ويبدو ضعيفاً وحائراً.. وكأنه قصيدة أخرى (لست أحيا) ينتقم لنفسه ويثأر لكرامته ويتجاوز الصبر والحكمة: ص218معولي في يدي.. وأصنام دنياك [c1] *** [/c] تريني ما ضاق عنــــه خيالــيلم يزل بعـــــد، في بقيــة أيامي [c1] *** [/c] مجال إلى ثبـــــات الليالــــــيلست أحيا إن لم أمت كل يـــــوم [c1] *** [/c] فيك شيئاً.. عبدته في ضلاليوهل يحق لنا أن نحاكم الشاعر على قصيدة قالها أم أننا نحاكمه على تجربته العامة ومسيرته؟ فالشاعر يعيش اللحظة التي تأسره وربما تفتّت أعصابه وتكسر عظام ظهره.. رؤيته للجمال وتقديسه له يجعله يسمو إلى أعلى المراتب. لأنه قدم المرأة ملاكاً طاهراً. ففي قصيدة (طهر) يصف خجل الفتاة وعدم ترددها عندما قبلها: طوقتها، يا للشذا [c1] *** [/c] مطوقـاً، مقبــــــلاًفما انثنت حائـرة [c1] *** [/c] ولا رنت تــــــــدللاولا درت وجنتهــا [c1] *** [/c] من خجــــــل تبدلاكأنها في طهرها [c1] *** [/c] أطهر من أن تخجلايشعر القارئ مدى براعة الشاعر بالتقاط الجزئيات المعبرة.ومرة أخرى يقدم لنا نفسه كفارس نبيل، يأبى الغدر ويرفض الخداع والخيانة ويحرص على المثل والقيم في قصيدة (وداع) والتي صاغها ببساطة وعفوية لم تجرح جمال الشعر ومضامينه وهذا دأبه:قفي! لا تخجلي كمي [c1] *** [/c] فما أشقاك أشقـانيكلانا مـــــر بالنعمى [c1] *** [/c] مرور المتعب الواني إلى أن يقول لها:لنطـــو الأمس ولنسدل [c1] *** [/c] عليه ذيل نسيـــــانفإن أبصرتني، ابتسمي [c1] *** [/c] وحييني بتحنـــــــانوسيري سير حالمـــــــة [c1] *** [/c] وقولي: كان يهوانيوهناك موقف رائع مزيجٌ من الشفقة والكبرياء والحب قدمه بأسلوب فني رائع في قصيدة عودي حيث يجمع القصة والحوار والدهشة والكبرياء والجلال والجمال في قصيدة عودي: قالت مللتك.. اذهب لست نادمــةً [c1] *** [/c] على فراقك.. إن الحب ليس لنا!سقيتك المر من كأسي. شفيت بها [c1] *** [/c] حقدي عليك.. ومالي عن شقاك غنى!لن أشتهي بعد هذا اليوم أمنيــــةً [c1] *** [/c] لقد حملتُ إليها النعش والكفنــــاقالت.. وقالت.. ولم أهمس بمسمعها [c1] *** [/c] ما ثار من غصصي الحرى وما سكنـاتركت حجرتها.. والدفء منسرحـــاً [c1] *** [/c] والعطر منسكباً.. والعمر مرتهنـــاوسرت في وحشتي.. والليـل ملتحف [c1] *** [/c] بالزمهرير.. وما في الأفق ومض سناولم أكد أجتلي دربي على حـــدسٍ [c1] *** [/c] وأستلين عليه المركب الخشنـــــــاحتى.. سمعتُ.. ورائي رجع زفرتها [c1] *** [/c] حتى لمست حيالي قدها اللدنــــــانسيت ما بي.. هزتني فجاءتهـــــــا [c1] *** [/c] وفجرت من حناني كل ما كمنـــــاوصحت.. يا فتنتي! ما تفعلين هنا؟؟ [c1] *** [/c] البرد يؤذيك عودي.. لن أعود أنـا