أوشكت الشمس على المغيب، وبدأ قرصها الهائل يغوص في مياه البحر .. وانبعثت بعض الأضواء الخافتة من الكبائن المنتشرة على الشاطئ معلنة بداية هبوط الظلام .. وخلا المكان الا من بعض هواة السباحة الذين لا تروق لهم مياه البحر في الزحام .وفجأة دوت صرخة استغاثة، واتجهت الأبصار إلى مصدر الصوت ..وأسرع الجميع إلى حيث تعالت الصرخات وتتابعت .. كانت صرخات امرأة، استهواها السكون، وشدها هدوء المياه الصافية، فنزلت إلى البحر تسبح .. وفجأة أحست بقواها تخور وبجسمها يغوص، والمياه توشك أن تبتلعها فصرخت تستغيث وتستنجد ..لكن احداً من الذين هرعوا إلى الشاطئ لم يتحرك، كانوا خليطا من البشر .. من الشباب والشيوخ والأطفال والنساء .. وكان بينهم ثلاثة أو أربعة على الأقل مازالوا بملابس السباحة، لم يخلعوها بعد .. وكان من الممكن أن يستجيب احدهم لصرخة المرأة .. ولكن شيئاً من هذا لم يحدث .. لقد أظلوا واقفين في أماكنهم بلا حراك يتأملون في فزع ما يجري أمامهم .. أمراة تغالب الموت فيكاد يغلبها .. ولا احد يتحرك.ومرت بضع دقائق قبل أن تحدث المفاجأة .. شاب غريب يهرول مسرعاً إلى الشاطئ، ويرى مارأوه فلا يتردد في خلع سترته وحذائه .. ثم يلقي بنفسه وهو مازال مرتدياً ما تبقى على جسمه من ملابس .. حاول أن يخفف منها بقدر ما أمكنه وفي لحظات قصيرة يصل الشاب إلى المرأة التي تصارع الموج ويمد لها ذراعه فتتشبث بها، ويظل يسبح بذراع واحدة إلى أن يصل بها إلى الشاطئ .. وينقذها من الموت غرقاً .. ويحمل سترته وحذاءه .. ويمضي في طريقه والمياه تتساقط من ملابسه.. وكلمات الشكر والدعاء تلاحقه.وعلى مقربة من مسرح الحادث الذي كاد أن يتحول الى مأساة .. كان هناك صبي صغير لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، يقف مشدوهاً، يرقب كل ما جرى ويجري أمامه، وقد استبدت به الحيرة .. الذين كانوا بلباس البحر وقفوا متفرقين بينما لم يتردد هذا الغريب في ان يلقي بنفسه في الماء وهو بملابسه وينقذ المرأة من الغرق.وحمل الصبي الصغير حيرته .. وعاد إلى البيت يروي لأبيه ما حدث إلى أن وصل إلى نهاية قصته فصاح: لقد كانت تغرق يا أبي .. ولكن احداً لم يبال .. ولولا هذا الشاب لكانت الآن طعاماً للأسماك في قاع البحر!.وجلس الأب ينصت باهتمام إلى حديث ابنه حتى انتهى من سرد قصته، ثم قال: لا تندهش كثيراً يابني لما حدث .. ولما رأيت إمامك اليوم .. فهذه هي الحياة .. وهذه هي الدنيا التي نعيش فيها ولكن يجب أن تذكر دائماً أن الشعور بالمبالاة والإحساس بالأحداث والناس يحتاج إلى قدر كبير من الحماس والشجاعة، حتى تحس بقيمة الحياة ذاتها ..