سعيد محمد سالمينالمعروف أن التراجيدية الشكسبيرية ترضي فينا النزعة الأخلاقية، ذلك أن الكارثة التي تحيق بالبطل إنما هي رد فعل ناتج عن الخطأ التراجيدي الذي أرتكبه البطل، ولكن نتائج هذا الخطأ لا ترتد على البطل وحده، وإنما تمتد إلى مجتمع بأكمله، على اعتبار أن البطل يرمز إلى هذا المجتمع.وكانت نهاية الملك لير نهاية مروعة، حيث مات لير وتسبب في مقتل كل من حوله من كانوا معه ضده، وتحطمت كل العلاقات حتى الثلاثة الذين عاشوا غير قادرين على حمل تيجان المملكة، فهم حطام كالملك لير نفسهأراد الملك لير في البداية ـ بدافع من أنانيته ـ أن ينعم بالراحة والهدوء ويغير حياته الأولى ـ المليئة بالمجون ـ إلى شيخوخته ولكن بعيداً عن مسؤولية الحكم، لذا قرر أن يقسم الدولة على بناته الثلاث، ولأنه حاد المزاج، جاهل بالتركيبة البشرية، فقد تعود أن يخاطب الآخرين بنرجسيته كوضع طبيعي اعتاده، لذا خدعته كلمات ابنتيه (جونريل وريجان) عن الحب والإخلاص. وقد صدمته أصغرهن وأكثرهن حباً له وأحبهن إليه (كورديليا) الصادقة، فهي لاتستطيع أن تزيف الكلمات، وتضعها في إطار براق، كما أنها لا تستطيع أن تكذب لأنها ليست في حاجة الى ذلك فهي تحب والدها بشكل حقيقي.لقد جاءت ردود كورديليا مفاجأة للملك لير جعلته يتصرف بعصبية وغباء، فهو جهل تحدي الثمانين من عمره، وأخذ عقله في الضعف، ولكنه لم يشخ بعد فمازال يتمتع بصحة لا بأس بها.ويرفض الملك لير أن يعطي نصيب الابنة الصغرى من المملكة بل يوزعه بين أختيها، ويضطر أن يقضي أيامه بين جونريل وريجان بالتناوب وكان الملك لير ينوي أن يقضي أخريات أيامه لدى كورديليا لولا موقفها منه.لقد أسلم الملك لير نفسه لأبنتيه، معتقداً أنه يسلم نفسه للراحة، ولكنه في الواقع يسلم نفسه للعذاب. فقد عاملته إبنتاه معاملة وحشية. وفي أقل من أسبوعين أغلقتا الأبواب في وجهه في ليال قاسية البرودة. ولم يتبق للملك سوى أن يرتمي في حضن الطبيعة القاسية يلعن الأرحام ويخاطب الرعد ويصرخ في السماء. وحينما تتسلط عليه فكرة أبنتيه يقوده ذلك إلى حزن مخيف ثم إلى الجنون حيث يطلق الفنان لكل طاقاته الداخلية دون رابط منطقي فيعبر عن مكنوناته بشكل صادق وغير مزيف .. يعبر عن آلامه بشكل يعجز عنه أي عقل في قدرته الواعية أو غير الواعية. ويطلق العنان آلامه فيعبر عنها برؤى شعرية ورؤى خيالية حيث يمزج الطبيعة بالإنسان، ويرى الإنسان في الحيوان وتكشف آلامه ومصائبه نبل معدنه وطيبة قلبه، وتجعله يعرف ما كان يجهله عن الطبيعة البشرية. فحينما كان لير ملكاً وبكامل قواه العقلية لم يكن حينئذ يرى الحقيقة، ولكن بعد أن فقد سلطته كملك، وبعد أن فقد عقله حينذاك وصل إلى الحقيقة والى الحكمة، وفي النهاية تأتي إليه كوديليا ـ التي أساء إليها ـ لتنقذه ولكنها تموت ويموت بعدها على صدرها.إن لير هو البطل الذي عانى ويتألم وجن، ولكنه في الواقع لا يدفع الأحداث إلا في بداية المسرحية حينما قسم المملكة بشكل غير عادل، ولكن المحرك الأساسي للأحداث جونريل وريجان ومعهما أدموند الابن غير الشرعي لجلوستر.وينعكس هذا في أعماق لير، كما كان يحرك ياجر الأحداث في عطيل ويظهر هذا في ردود أفعال عطيل حتى قاده وقاد نفسه إلى الدمار، وإن كان هذا لا ينفصل اصلاً عن تركيبة البطل التي تجد صدى للحركة المقابلة.لقد تكررت مأساة الملك لير في حدث مواز في المسرحية يمثله جلو ستر وأولاده فجلوستر إنما هو صورة أخرى من الملك وإن كانت صورة باهتة .. إنه رجل حسن، أساء إلى أبنه أدجار كما أساء لير إلى أبنته كورديليا، وكان ضحية مؤامرة دبرها أبنه أدمويد، كما كان لير ضحية مؤامرة دبرتها أبنتاه ويرجع مصير جلوستر المأساوي الى غبائه وأنانيته حيث تفقأ عينيه ولكنه يصل في النهاية إلى التطهير عبر معاناته وآلامه التي تقوده الى الحكمة.ويموت جلوستر بعد أن يلتقي بأبنه أدجار كما يموت لير بعد أن يلتقي بكورديليا.وفي المقابل الدرامي تقف جونريل وريجان وأدموند وكونرال واوزقالد، جونريل وريجان شخصيتان شريرتان، استطاعتا أن تنتزعا المملكة بعد أن مثلتا على لير العجوز ثم أغلقنا الباب في وجهه ودمرتاه وكانت تخدع كل منهما الأخرى، ثم تنازعتا على حب أدموند الذي خدعهما. ويذكرنا أدموند بياجو في مسرحية.عطيل وإن كان ادمويد لا يتمتع بنفس القدر من الثقافة التي كان يتمتع بها ياجو، ولكنه يشبهه في الدناءة والخسة. وربما كانت عدم شرعية بنوته هي التي دفعته الى هذه السلوكيات. لقد أحبته جونريل وريجان، ولكن حبه كان أكبر من الأختين، كان حبه للسلطة، ولم يختر أدموند ريجان لأنه يحبها، وإنما لأنها ستحقق أغراضه وستضع التاج فوق رأسه بقوتها ودهائها وشرها.لقد كان كونرال غاضباً كالملك لير، وكان اوزتالد خادماً مخلصاً حتى الموت كما كان كنت ـ على الجانب الدرامي المقابل ـ خادماً للملك لير حتى الموت.إن مسرحية الملك لير تعتبر أفضل عمل تأليفي لشكسبير وأن كانت تعتبر ـ من حيث البناء الدرامي ـ أقل أهمية من عطيل. ويرجع ذلك كما يقول (برادلي) إلى (إنها لا تخاطب الإدراك الدرامي بقدر ما يخاطب نوعاً من الخيال الشعري الأكثر قدرة وأدق شاعرية).