كتب / سعيد محمد سالمين:يعتبر بلزاك (1799 ـ 1850م) احد رواد المدرسة الواقعية في الأدب العربي، ولم يقتصر تأثيره على الأدب الغربي وحده بل امتد الأثر إلى الأدب العربي الحديث. وهذا ما نلمسه في أعمال نجيب محفوظ الروائية وبخاصة (الثلاثية) فهي رواية واقعية رصدت واقع مصر بين 1919 و1945.لقد تناول بلزاك أهم القضايا الاجتماعية التي يعاني منها مجتمعه الغربي، بواقعية تحليلية في روايته الشهيرة (المتصيدة) والتي تكمن في انعدام الترابط الأسري باعتبار أن الأسرة نواة المجتمع فإن صلحت صلح المجتمع، وإن فسدت فسد المجتمع كله.ركز بلزاك على الأسرة تركيزاً كبيراً في عمله الروائي، متخذاً أسرة (بريدو) نموذجاً للمأساة التي أدت إلى عدم تماسكها وتعاونها نتيجة لعدم الاستقرار المادي، وغياب رب هذه الأسرة وتركها دون أي شيء وحسب رأي بلزاك فإن الفقر هو عامل رئيسي في تلك الأسرة ولذا شكل الفقر عنده الأساس الأول لجميع مشكلات المجتمع الغربي، ولكن الحقيقة هي أن الخواء الروحي والمسيطر على الغرب بشكل خاص قد أعمى بصره وبصيرته وجعله لا يفكر إلا في إشباع حاجاته المادية والفسيولوجية.(بريدو) في أسرة مكونة من الأم (آغات) ومن فيليب وجوزيف فالأم (آغات) كانت العقدة المهيمنة على حياتها عقدة فقدان المال والثروة رغم العاطفة الدينية التي كانت تدعي أنها تدفعها إلى نقد الأشياء المخالفة للدين إذ كانت ترى أن نساء المسرح مثل جمرات جهنم فهي تكرههن لهذا السبب الديني إلا أن الحقيقة أنها تكرههن لسبب آخر خفي في لا شعورها العميق وهو أنها (تعتقد أن هؤلاء النسوة يأكلن الذهب ويشربن اللآلئ ويدمرن أكبر الثروات (ص 63) وهي محرومة بالطبع من كل ذلك.وتظل المشكلة المادية هي المسيطرة على الأذهان، وهي سبب المأساة لدى الصغار والكبار. إذ أننا نلاحظ جوزيف يقول لأمه:(هل تعتقدين أن الحمق يبلغ من أخي حداً يعطي فيه نقداً (راقصة المسرح) إن هؤلاء النساء لا يدمرن إلا الأغنياء).وبما أن الأسرة هي أساس المجتمع في نظر بلزاك فقد تأثرت أسرة أخرى من انحلال ونرجسية وسادية فيليب مثل أسرة خاله الدكتور (روجيه)، ولو أن أسرة روجيه نفسها كانت وشيكة الانهيار نتيجة انحلال الدكتور روجيه نفسه .. ثم كان السبب في انهيار الأسرة كلها، هو التآمر على ثروة الدكتور روجيه، ذلك التآمر بين المتصيدة (فلور) و (ماكس) من جهة وفيليب من جهة أخرى .. وكانت النتيجة لذلك قتل النفس.يقول فيليب : (لا توجد إلا طريقة واحدة لقتل رجل دون أن يكون للعدالة اقل كلمة تقولها وهي الدخول في مبارزة معه (أي ماكس) لكنني أعرف على الأقل ثلاث طرق للتخلص من امرأة، أفهمت ياظبيتي؟ّ!) مخاطباً (فلور) المتصيدة وفعلاً عمد إلى قتل ماكس في مبارزة غير متكافئة لأنه كان على درجة عالية من التدريب على المنازله بحكم تخصصه العسكري فقد كان في الأصل قائد كتيبة، وكانت النتيجة أن أصيبت فلور بإنهيار عصبي، وتم نقلها إلى المستشفى لتلقي العلاج.يقول طبيبها مخاطباً إياها، وموضحاً مدى اقترافها لجرائم أدت إلى انهيار أسر بسبب سعيها وراء المال: (ألا ترين وجوب العودة إلى الله يا ابنتي؟ كنت سبباً في مصيبة كبرى يجب التكفير عنها.لقد كان بلزاك محقاً وهو يضع أيدينا على الداء الحقيقي للمجتمع الغربي وهو عدم صلاح الأسرة التي بصلاحها يصلح المجتمع وبفسادها يفسد المجتمع، فإنهيار الأسرة في المجتمع الغربي قد ولد تفككاً في علاقات أبناء الأسرة الواحدة، ومن ثم علاقات المجتمع. إذ تحول أبناء الأسرة الواحدة إلى أفراد متناحرين .فجوزيف بالرغم من أنه القلب النابض بالود والإحترام يكن كرهاً وبغضاً لفيليب والعكس صحيح والسبب هو رغبة فيليب في تحقيق مآربه الشخصية والإستيلاء على كل شيء لصالحه.إنها مفارقة عجيبة بين الأخوين: جوزيف مثال الطاعة والإحترام لأمه يعطي ولا يأخذ شيئاً، بينما فيليب نموذج مشحون بالشر الذي تسبب في هدم الأسرة وتقويض أركان القيم في المجتمع الغربي لأن المجتمع الغربي كان أشبه بالأم في هذه القصة فكما سمحت لفيليب أن يدمر كل جميل في الأسرة سمح المجتمع الغربي للشر أن يتوسع فيه ويقضي على قيم الخير والفضيلة.وقد ازدادت الأسرة إنهياراً وإنحلالاً بوفاة الأم نتيجة لسوء تصرف فيليب نفسه .. يقول بلزاك في ختام روايته.(لما ماتت أمه (أم جوزيف) أرسل رسالة إلى فيليب يقول فيها: (أيها الوحش توفيت أمي من الهزة التي سببتها رسالتك لها، الزم الحداد وتظاهر بالمرض، فأنا لا أريد أن أرى قاتلها إلى جانبي أمام نعشها).ثم مالبثت الأسرة والأسرة المرتبطة بها أن قضيا عليها بفعل الشر .. لأن الشر دائماً يلتهم كل شيء حتى من صنعوه.
أخبار متعلقة