علي محمد يحيى في فضاء إحدى أمسيات الأربعاء المباركة لجمعية تنمية الثقافة والأدب وبرعاية من رئيسها المهندس محمد مبارك حيدرة منذ ما يقرب من الشهرين أو تزيد قليلاً كان ضيفها والمتحدث فيها الأستاذ الدكتور محمد فارع الحكيمي الذي ما عرفناه إلا متعدد المعارف وأسع الاطلاع في الثقافة والأدب والفن والسياسة والحياة الاجتماعية ناهيكم عن تخصصه العلمي وهو الحاصل على شهادة الدكتوراة كاختصاصي في أمراض النساء والولادة، الدمث الخلق البصير في علمه والهادئ في حديثة وسجاله، صاحب الفكر الثاقب.في أمسية الأربعاء الموافقة للعشرين من أكتوبر سنة 2010م ووفقاً لبرنامج الجمعية المثالي في الانضباط، الصارمة في مواعيدها والالتزام عند متحدثيها .. فقد كان محور موضوع المتحدث “ الإبداع والهوية الثقافية” وقد بنى حديثة المقارن على الواقع العربي ومجتمعاتنا العربية في علتها ومعلولها،رغم الزعم للقيادات السياسية العربية أنها قد حددت نمط حياة وواقع شعوبها وهوياتها على طريق الديمقراطية وتحرر الفكر والإبداع الثقافي وأنها قد وضعت مراراً معالجاتها المستمرة - حسب زعمها - إلا أنها قد اصطدمت وما زالت مع واقع سياساتها ومفاهيمها المختلفة لمعاني الهوية الثقافية (العربية) وبما يضمن بقاءها سائدة رغم ادعاء غالبيتها برفع شعار الديمقراطية في كل مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية. والثقافة بشكل اخص هي التي يجب أن تواجه التحديات كما تمنحنا هويتنا التي نحن في اشد الحاجة لها اليوم ، بعد أن كنا فقدناها في وقت وعصر مضى.. ثقافة تقف أمام من لا يقبل ديناميكية العصر وظروفه وحاجته للتغيير نحو الأفضل مستمدة من ثراتنا وقيمنا الإسلامية والحضارية وكذلك ما حققته شعوب الشرق والغرب ومما اكتسبته من معارف وعلوم وتراث إنساني كانت في الأصل في يوم ما تراثنا نحن العرب . ثقافتنا اليوم نحن بحاجة لها شريطة أن تكون ثقافة ( ثائرة) تتمر دعلى ما ورثنا من انحرافات قديماً وحديثاً لبناء مستقبل لنا جديد بقيم تمنحنا هويتنا المفقودة. ومن حسن تدبير الدكتور الحكيمي في موضوع أمسيته الثقافية التي استمتعنا من خلالها بترتيب المعلومات والأحداث والتحليلات والبيانات فيها، أسلوبه الراقي ، جمع فيه ما بين قراءة في النص المكتوب الذي أعده سلفاً ووقوفه اللازم أمام العديد من المحطات والمقولات والتحليلات العلمية التي كان يتوقف عندها ليشرحها بلغة مبسطة سهلة ممتنعة فبدأ مقدمته في تعريف مفاهيم ومعاني الهوية العربية باعتبارها كياناً معنوياً متجانساً ومترابطاً في بنائه الداخلي وتجلياته الخارجية التي تعمل على اكتساب أعضائها هاجس الانتماء المشترك من خلال توليد الاعتقاد بتماثلهم في الأصول والمعتقدات والموروث الثقافي عموماً إذ أن الهوية الثقافية لا تأتي من خلال ذاتها .. لأنها أي الهوية الثقافية نتاج الفعل الإنساني المبني على التمايز والتباين من الآخر - ونجدها حالة تكرر في كل زمان ومكان أساسها التباينات في شتى مكونات الثقافة كما جاء في حديثه. ثم بدأت مسيرة حديثه التي اصطحبنا فيها معه عبر محطات خمس إن أسعفتني الذاكرة - توقفنا أمامها لنطل على أفكاره المعروضة .. فكانت محطته الأولى هي. القلق على هويتنا العربية وكيف أن هذه الهوية الثقافية لا تفهم إلا كإشكالية وقت شعورنا بالخطر حين يهدد الأمة ويزداد قلقنا أمام ما ينتجه العالم من تكنولوجيا نعجز عن المشاركة وصنعها أو فهمها فنضطر للهروب إلى الأمام دون وعي أو إدراك أو دراسة وتقييم لتلك التجارب التي أوصلت الكثير من المجتمعات إلى تبيان هوياتها من خلال المعرفة وحرية التعبير ومشاركة الآخرين في المجتمع في ظل الديمقراطية التي يجب أن نمارسها بوعي وفهم دون تسلط على رقابنا أو قهر في ظل تجارب ( غوغائية السلطة ) وتزعم أنها تمارس الديمقراطية. ثم اخذ بنا حديثه نحو محطته الثانية وكان قد وسمها بـ”الهوية الثقافية من الماضي إلى المستقبل” مشيراً إلى أننا نحن العرب إذا أردنا لهويتنا سمعتها فلا ضير من العود إلى تاريخنا ونتاجنا القديم، الثقافي والعلمي والأدبي - إن أردنا - لدراسته ومعرفة أوجه الإيجاب فيه، وكيف أننا بلغنا وقتها مالم تبلغه أمه أخرى.. على أن لا يكون ذلك من باب التغني بالأمجاد فحسب بل أن نضعه خدمة للحاضر ولكي نرى من خلاله مستقبلنا ومتطلباته في خدمة الأمة وإبراز معالم هويتها المعاصرة ، ونقف أمام ما ضعف من أمرنا وتصحيحه ليساير العصر، وكذلك ما انتجته الشعوب في تاريخها الإنساني الحديث ونقاربه بما لدينا حتى نتمكن من معرفة حاجاتنا الروحية والمادية. والمحطة الثالثة كان للدكتور الحكيمي أن أوقفنا مجبرين طوعاً أمامها إذ كانت هي المحطة المرآة التي لابد أن نرى فيها وجوهنا وواقعنا بدلاً من أن نظل نرقب ونتفرس في وجوه غيرنا .. كما نقارن ما عندهم بما عندنا فعرض أمام أبصارنا وعلى مسامعنا تعاريف متعددة للمعرفة العصرية المعلوماتية فقد كانت محطة “ الثقافة ومجتمع المعرفة” فالثقافة كما وضعها برغم ذيوع وانتشار اسمها فهي النسق الاجتماعي الذي في قوامه منظومة القيم الإنسانية ومعتقداتها ومعارفها وفنونها وعاداتها وتقاليدها وموروثاتها الاجتماعية وأنها هي أيضاً المنظار الذي يرى من خلاله الفرد ذاته ويرى العالم من حوله. وقد تبقى بعد زوال كل شيء .. أما المعرفة فهي الرافد المتجدد الذي لا ينقطع مداه ولا ينضب بل يبقى مورداً متجدداً ويزداد تجدده بزيادة الاستهلاك في المجتمع ونشاطه وبها تتسع دائرة الثقافة فتتشكل الهوية. “ المؤسسات التربوية التعليمية والهوية الثقافية» كان هذا هو عنوان المحطة الرابعة التي حط رحالنا فيها مع الدكتور الحكيمي ليوفقنا أمام تحديات العولمة في مواجهة الهوية والخصوصية الثقافية للمجتمعات العربية من خلال رافد التعليم فبدأ حديثه في هذه المحطة بأن على المجتمعات إلى موقع أكثر تقدماً مع حفاظها على هويتها الثقافية مثلما سعى اليابانيون إلى تطوير أنظمة التعليم دون فقدانهم لهويتهم الثقافية وفي ظل هذا العصر الذي يشهد تغيرات مجتمعية وعالم متسارع فان من الضرورة ونحن نعد مناهجنا التربوية والتعليمية أن نراعي أثناء إعدادها ما يضمن ويعزر هوية الأمة حتى نعرف من نحن فرداً وجماعة وما القيم التي نؤمن بها وندافع عنها.. وفي ذات الوقت أن نجعل من هذه المناهج مساراً وطنياً مهارة الفرد لوقاية نفسية من أخطار مجتمعات تتحرك نحو الاستهلاك المفرط تؤدي فيما بعد إلى خلخلة القيم والى متاهات قد تفقدنا خواص هويتنا ولم يفته الإشارة إلى دور الجامعة كمؤسسة تعليمية وتعليمه التي في ظلها ينمو الفكر وتزدهر الثقافة وتتفتح فرائح الشباب وتبرز المواهب باعتبارها منظمات علمية أكاديمية وجدت من اجل الفكر والثقافة ولهذا فإنه يجب أن تتمتع هذه المؤسسة التعليمية بقدر عالٍ من الحرية الأكاديمية وان يكون لها استقلال ثقافي يتمثل في تنظيم برامجها التعليمية وتطوير مناهجها واختيار طرق تدريسها بحرية .. حتى تقوم بدورها التنويري الذي يتمثل في نشر المعرفة التنويرية وتنشيط قواها لأحداث التغيير الايجابي ومحاربة التخلف في ظل حرية فكرية واستقلالية بعيداً عن التبعية في كل صورها كما جاء في حديثه كما تستدعي الضرورة كل المجتمع لمحاربة الأمية ورفع مستوى الوعي لدى الاباء والأمهات بما يخدم التربية المنزلية السليمة لابنائهم لتتوافق معها المدرسة في خلق جيل متسلح بالعلم والمعرفة. أما المحطة الخامسة والأخيرة حيث حط بنا الرحال فيها واستقرت بنا في آخرها الأمسية في الحديث عن “ الهوية الثقافية وأدب المنفى” وقد استهله بما جاء في تعريف الناقد الاسترالي “ بيل شكروفت” ومن اتفق معه في هذا الرأي بأن “ المنفى” يقابل فكرة الانفصال والابتعاد عن الوطن الأم أو عن الأصل الثقافي أو العرقي وقد يكون مفروضاً حيث لا يستطيع الفرد المنفي أن يعود إلى وطنه الأم حتى ولو رغب في ذلك مهما تعددت مسببات هجرته ومغادرته لوطنه.. وهنا يصعب عليه في أحيان كثيرة الشعور بالاستقرار وأين هو الوطن الذي ينتمي إليه فلا يدرك بعدها ماهية هويته فينتج عند اغلب المبدعين في هذه الشريحة المغلوبة على أمرها أدباً مهجرياً تظل تستذكر فيه أوطانها الأصلية وتجربتها في مواطنها الجديد المصطنع التي من السهل كشفها من بين نصوص الكتابة أو تكرارها. تم اختتم حديث تلك الأمسية بالمسك بعد أن ابتدأها بروائح العطر بمقطع من تساؤل محمود درويش في تعريفه لهوية الغريب الأبدي الذي أدمن العيش في هويته التي أصابها جرح نازف مقيم ، حيث يقول درويش : غريب على ضفة النهر ، كالنهر ... يربطني باسمك الماء لا شيء يرجعني من بعيدي إلى نخلتي لا السلام ولا الحرب لا شيء لا شيء يومض من ساحل الجزر والمد ما بيني وبين دجلة والنيل .. لا شيء يحملني أو يحملني فكرة .. لا الحنين ولا الوعد .. ماذا سأفعل ، ماذا سأفعل من دون منفى .. وليل طويل يحدق في الماء ! .