أضواء
التلفزيون العربي، سواء أكان محلياً وطنياً، خاصاً أو عاماً، أم كان فضائياً، يسهم بقصد أو بغير قصد في تأخير انتقال المرأة العربية من وضعها البائس المتخلف الحالي إلى أوضاع أكثر عدالة وإنسانية وأقرب إلى المساواة الإلهية في خلق الرجل والمرأة (من نفس واحدة)... التلفزيون العربي يسهم بشكل عابث جاهل عندما يقدم المرأة في صورها الثلاث التالية:أولا: عندما يقدمها كجسد غريزي، جنسي، شهواني بحت. وهنا لا يقتصر الأمر على بعض المغنيات والراقصات اللواتي يقد من في برامج لا تختلف عن البرامج الزرقاء الإباحية التي تبث عبر مئات القنوات في العالم بعد منتصف الليل... ولكنه يمتد ليشمل بعض مذيعات نشرات الأخبار وبعض مقدمات برامج التسلية وغيرهن من العاملات، وذلك في صورة أقرب إلى الإعلان التجاري الذي يسعى إلى بيع بضاعة أو الترويج لخدمات متعة. ثانيا: عندما يقدمها كجسد محر م، ملفوف في خرقة لا شكل لها ولا لون، مكتوم الصوت، محد ق في الأرض، تختلط فيه صور الحشمة مع صور حركات الخضوع والانسحاق الجسدية... إنه جسد الأمة -لا جسد المرأة الحرة ذات الإرادة الذاتية المستقلة القادرة على الحوار والإبداع وممارسة عبقرية الأنوثة السامية.ثالثا: عندما يختصر حيويتها وذكاءها وطموحاتها في مجموعة صغيرة من الأدوار: ممثلات، مغنيات، ربات بيوت، عارضات أزياء... وغيرها من الأدوار النمطية. أما أدوارها الأكبر والأوسع، كمعل مة في مدرسة وأستاذة جامعية وباحثة ومهندسة ومبدعة في مجالات الأدب والعلوم والاقتصاد والسياسة وعشرات المهن والوظائف... فإنها لا تظهر إلا لماما وعلى استحياء وبشكل هامشي مكم ل لأدوار الآخرين من الرجال.هذا التقديم النمطي الذي يحصر المرأة العربية في صورة سلفية تعكس الجانب المتخلف الظالم في الثقافة العربية، باسم الدين الإسلامي، أو في صورة تقليدية ببغاوية تعكس الانسحاق الكامل أمام ثقافة الغرب التجارية الاستهلاكية التي قلبت المرأة إلى سلعة في سوق نخاسة عولمية أو في صورة كائن عصري لكنه محدود الإمكانيات والطموحات والقدرة على الإبداع والمغامرة الحياتية... هذا التقديم أضر كثيرا بالمرأة وخلق فوضى فكرية ثقافية في المجتمع العربي وأدى إلى خوف سياسي هو بدوره قاد إلى شللٍ تشريعي لإعطاء المرأة العربية حقوقها الشخصية والعامة كاملة.إن محطات تلفزيونية، لم تر في المرأة العربية إلا تلك الصور المتضاربة المتصارعة، ستنتهي بألا تدعو لمناقشة الوسائل المطلوبة لإخراج المرأة العربية من هذا الوضع البائس، إلا على يدي شخصين هما بدورهما سيمثلان موقفين متعارضين. الأول سينحاز لثقافة التخلف والقهر، باسم الدين، والثاني سينحاز انحيازا أعمى للأنموذج الغربي بكل علله ونواقصه. هذا الدوران في حلقة مفرغة عبر الحقب والعصور، سيبقي الاستقطاب المفجع في المجتمع العربي ويحافظ على وجود عالمين مختلفين متصارعين في مجتمع واحد. من هنا تأتي الأهمية القصوى للخروج من مأساة الرغبة الطفولية للعيش في ماض لم يعد موجودا، وكارثة الحلم بمستقبل متخيل لا تحققه من الممكنات المعقولة.قضية المرأة العربية هي في الأساس قضية ثقافية في عقل الرجل العربي والمرأة العربية على السواء. ومعالجة العلل الثقافية تتطلب أكثر بكثير من إيديولوجية التمذهب القارئ للدين الإسلامي بعقلية متحجرة لا تؤمن بأي تطور مع حاجات الحياة، وتتطلب أكثر بكثير من أيديولوجية التقليد الأعمى للآخر دون الانفتاح عليه بندية وفهم عميق واستفادة عقلانية. مواجهة العلل الثقافية تحتاج إلى علم وعلماء من شتى حقول المعرفة، يساهمون في طرح حلول تأخذ بيد المجتمع وأفراد المجتمع بعيدا عن الاستقطابات الحالية، إلى رحاب العدالة والحقوق الإنسانية والكرامة البشرية. من أجل هذا الحوار أعتقد أن الأمر يتطلب خلق منابر إعلامية -ثقافية متحررة من سلطات الأيديولوجيات المنغلقة على نفسها، تساعد على إخراج المرأة من نمطية الصور الثلاث آنفة الذكر، وهذا موضوع يستحق مناقشة واسعة.[c1]*عن/ جريدة(الاتحاد) الإماراتية[/c]