قصة قصيرة
طالت وقفتها وراء زجاج نافذة الغرفة الصغيرة، التي كانت بالأمس تحتضن أعز وأغلى ما تملك كل أم.. ابنتها التي كبرت وتخرجت في الجامعة، وأصبحت زوجة للرجل الذي اختارها دون سائر النساء لتشاركه حياته.. ودمعت عيناها!بالأمس كانت تخطر في ثوب زفافها الأبيض الجميل، والمطبلات يزففنها على دقات طبول المراوس، والمرددات من صديقاتها.. يرددن أغنية : “قمري شل بنتنا.. قمري شلها وراح”.. كانت رائعة.. وسخرت من نفسها وهي تجفف دموعها، بمنديلها الصغير.. أليست هذه هي الأمنية التي عاشت من أجلها.. أمنية كل أم؟ أليس هذا هو حلمها الكبير في أن ترى ابنتها عروساً تعيش مع رجل يحميها ويرعاها؟وأحست بسعادة تغمرها، ولكنها لم تستطع أن تقاوم الشعور الغريب الذي احتواها في نفس اللحظة، وهي تتأمل الشارع الذي خلا من المارة في تلك الساعة المبكرة من الصباح.. الشعور بهذه اليد الغريبة.. يد الشاب الذي حمل ابنتها وذهب بها بعيداً، وكأنه ينتزع قلبها من بين ضلوعها!لقد حدث كل شيء بسرعة.. الخطوبة والزواج والرحيل عن البيت الذي رعاها طفلة وصبية وشابة.. فقد كان زميلها في الجامعة.. وتحابا.. ثم جاء يطلب يدها من والدها، وبارك الأب الزواج.. لم يستغرق كل هذا أكثر من شهرين.. كانت ابنتها خلالهما مشغولة بدراستها التي لم يبق على إتمامها سوى بضعة أسابيع.. تخرجت بعدها.. وحملت شهادتها لتبدأ بها حياة جديدة مع زوجها الطبيب الشاب.. لم تستطع أن تجد الفرصة التي تحرص عليها كل أم قبل أن تبدأ ابنتها تجربتها الجديدة.. كانت تريد أن تجلس إليها وتتحدث معها! وتملأ أذنيها بنصائحها، وهي تستعد للقيام برحلتها مع زوجها، تلك الرحلة الصعبة المليئة بالأشواك والزهور.ربما كانت من أجل هذا أيضاً تبكي.. ولكن لا.. إنها لم تنم طوال ليلة الأمس بعد أن وقفت تودع ابنتها وتضمها إلى صدرها، وتهمس في أذنيها : “سوف افتقدك يا حبيبتي.. ولكن أرجو أن تتذكري دائماً أن سعادتي في أن أسمع أنك سعيدة.. عندئذ فقط سوف أشعر أنك لم تتركي بيتك لحظة واحدة”.وجلست الأم إلى المكتب الصغير في غرفة نوم ابنتها، وأمسكت القلم وراحت تكتب رسالة مطولة إليها :“ابنتي الحبيبة.. اكتب إليك هذه الرسالة من غرفة نومك.. لا أدري بماذا أصف لك مشاعري يا صغيرتي.. لقد قضيت الليلة الأولى لفراقك ساهرة أتأمل صورتك.. إنني أراك في كل شيء حولي.. اسمع صوتك يملأ أذني في كل لحظة في صحوي ونومي.. أنت معي دائماً يا حبيبتي، وأنا معك بقلبي وروحي.. وإن بعدت المسافة بيننا، اكتبي لي ولا تضني علي بالكتابة، أما أنا فسوف اكتب واكتب، ولن أمل الكتابة إليك أبداً.ولكن فيم أكتب يا ترى؟ ما رأيك لو رويت لك جانباً من تجربتي مع الرجل الكريم الذي أحبني وتزوجني! وأصبحت شريكة حياته، وأماً لأطفاله منذ أكثر من ثلاثين عاماً مضت؟ لقد عشت أنا يا ابنتي في زمان غير زمانك.. تربيت وكبرت في بيئة تختلف عن البيئة التي نشأت أنتِ فيها، وتفتحت عيناك عليها وسط والديك وإخوتك وزملائك وأساتذتك في المدرسة ثم في الجامعة. فأنا لم أتمتع بالحرية التي نعمت أنتِ بها، إلا بمقدار ما كانت تسمح به تقاليد المجتمع الذي كنا نعيش فيه في ذلك الوقت.. لقد كان جدك رجلاً محافظاً وكذلك كانت جدتك، شأنهما في ذلك شأن كل الآباء من الجيل الذي أنتمي إليه.ولعل هذا هو السبب في أنني لم أكمل تعليمي الجامعي، فلم يكن التحاق الفتاة بالجامعة شيئاً مستحباً ولا مألوفاً في ذلك الوقت.. ولكنني كنت فتاة ذكية مثلك الآن تماماً، رغم أنني لم أكن أعرف عن حقائق الحياة شيئاً إلا بقدر ما كانت تحكيه لي أمي، والذي لم أجد الفرصة لأنقله إليك، قبل أن تبدئي أعظم تجربة في حياة المرأة يا ابنتي..“صحيح أن جدتك لم تكن تعرف القراءة ولا الكتابة، ولكنها كانت طيبة القلب، أحسنت تربيتنا وسهرت على راحتنا وسعادتنا، فنشأنا نشأة محافظة.. وتعلمنا منها كيف نفرق دائماً بين الخير والشر، والخطأ والصواب.. شيء واحد كان يثيرني ويبعث الضيق في نفسي.. هو بقائي في البيت في انتظار ذلك القادم الغريب الذي سيقدمه لي أبي ويصبح زوجاً لي.وكان مجرد تفكيري في الزواج بهذه الطريقة، ومن رجل لا أعرفه يجعلني.. أنفر من الحياة الجديدة التي كانت أمي تعدني بها.“لقد كانت أمي تلقنني دروساً يومية في الطهي والحياكة والخياطة والعناية بشؤون البيت.. وكنت أحاول.. ولا أكف عن المحاولة من أجلها هي.. من أجل أمي التي كان تفكيرها في حياتي وفي مستقبلي مع زوجي هو شغلها الشاغل، فكنت أرقبها وهي تطهو الطعام لوالدي، وأعاونها في أعمال البيت، وأجلس لأتعلم منها كيف تحيك الملابس وترقع الجوارب، وتصنع أطباق الحلوى اللذيذة التي يحبها أبي”.“كانت أمي بالنسبة لي مدرسة، وأنا التلميذة الوحيدة فيها، ولكنني تلميذة خائبة، احتوتها الحيرة وتوقف عقلها عن التفكير.. ثم جاء اليوم الذي ظلت أمي تنتظره طويلاً”.وتقدم والدك لخطبتي، ورضيت به زوجاً بطبيعة الحال.. فلم يكن أمام أي فتاة أن تفعل غير ما فعلت.. وبدأت أتعلم كيف أسعد هذا الرجل، لكي ترضى عني أمي على الأقل”..“ومرت الأيام الأولى على زواجنا، كما تمر بكل عروس، وانتهى شهر العسل، وبدأ زوجي يستعد للعودة إلى عمله.. وتلفت حولي فإذا بي أجد نفسي أعيش وسط دوامة، وأنا أقف وحيدة وسط هذه المملكة الجديدة.. ماذا أفعل؟ وكان لابد لي أن أبدأ، فهناك عمل كبير ينتظرني، ولكن كيف أبدأ ومن أين؟ ولم تستمر حيرتي طويلاً.. فقد طالعتني صورة أمي، وتذكرت ما كانت تقوله لي : “يجب أن تتعلمي يا ابنتي دائماً أن أقصر طريق إلى قلب الرجل هو معدته.. احرصي دائماً على أن تعدي له الأطباق الشهية التي يحبها”!“وشمرت عن ساعدي وأسرعت إلى المطبخ.. من هنا يجب أن أبدأ واستوعبني العمل بين أواني الطعام وحرارة الموقد.. ولا أذكر ماذا صنعت، ولا كيف بدأت، ولكنني فقط لم أنس أنني في ذلك اليوم أحسست بأنني قد أصبحت زوجة، وأنني قد حققت أمنية أمي”.“ومضت الأيام، وجاءت أمي تزورني في بيتي الجديد، ولكنها ما كادت تدخل البيت حتى وجدتها تقف مشدوهة.. إنها لم تصدق أن هذا البيت الجميل الذي وضع فيه كل شيء بنظام، هو بيت ابنتها التي كانت تخاف عليها من الفشل! قلت أحدثها: ”إنني أحب زوجي يا أمي، رغم أنني لم أعرفه قبل الزواج.. وهو أيضاً يحبني، وأنا أفعل كل ما في وسعي لإسعاده”.“هكذا كانت بداية حياتي مع والدك يا ابنتي.. كانت حياة مليئة بالعمل والكفاح.. كان يعمل كثيراً، ولكنه لم ينس يوماً واجباته نحو بيته وأطفاله.. الزواج شراكة يا ابنتي، وقد كنت شريكاً مخلصاً أميناً، وقفت بجانبه أساعده وأشجعه، وهو يصعد السلم إلى النجاح. ولكن ليس معنى هذا أن أيامنا كلها كانت عسلاً.. لقد اختلفنا كثيراً وتشاجرنا كثيراً، ولكننا لم نكن نسمح بانقضاء اليوم قبل أن ننهي ما كان بيننا من خلاف، ولم نكن نسمح لأحد بأن يتدخل في حياتنا الخاصة مهما كانت علاقته بنا”.“وكان يحترم عملي في البيت.. كان يقول لي :”إذا كنت أنا الذي أكسب ثمن الخبز، فأنت الخبز نفسه.. وأموال الدنيا كلها لا تستطيع أن تعوضني عنك.. أنتِ ملكة في بيتك! وكنت بدوري أفهمه، وأعرف مزاجه، وأقدر أحاسيسه ومشاعره.. كنت احترم صمته، وأضحك بضحكاته.. وأبكي لآلامه ومتاعبه، ثم أحاول بعد هذا أن أخفف عنه.. لم أحاول مرة أن أفرض رأياً أو أتمسك بموقف.. وكان هو أيضاً لا يتخذ قراراً قبل أن يرجع إلي ويأخذ بمشورتي.. فإذا اختلفنا أرجأناه لنعود إليه في وقت آخر.“هذه رسالتي إليك يا ابنتي، وأنا لا أراك تبتعدين عني لتعيشي حياتك الجديدة مع زوجك ومع المستقبل الذي ينتظرك.. وهذه كانت حياتي مع والدك.. وإذا كان هذا هو مسلك زوجة لم تنل من التعليم إلا نصيباً متواضعاً، فكيف يكون مسلك زوجة أتمت تعليمها الجامعي؟ تذكري دائماً يا ابنتي أن التعليم هو بداية رحلة الحياة، وأن الحياة وحدها هي أكبر مدرسة يتعلم فيها الشباب أشياء لا يمكن أن يجدوها في الكتب. وقد علمتني الحياة أن الزواج هو أعظم تجربة يمر بها الإنسان، رجلاً كان أو امرأة”.