يقال إنـه لا عاصم اليوم من إعصار المعلومات إلا بأن نلحق بالركب، طبعـا إرثنا الحضاري هو آخر ما تبقى لنا في ذاكرتنا الثقافية، والمشهد الثقافي هو الراهن الذي لا يكفي للتعبير عن قضايا وشؤون عديدة، فهذا مقياس كمي لا يقاس بالواقع، أو مسألة تبدو متراجعة بعد أن طغى البرنامج الاحتفائي الآني عليها (....) لأن المشاريع الكبرى إذا شئنا أن نتوسع كثيراًفي شرحها إن جاز لي هذا التعبير، كانت جزءا فاعلا في الواقع ومتفاعلة معه.ولذلك ما عادت هذه الأخيرة قابلة للمزايدة أو العزف على وتر هوية المتلقي تحديدا، أو ماهية مقاربته من زوايا مختلفة للثقافي، ولا أدري الآن أين هي هذه المشاريع الثاوية لمحاولة الإمساك بها.. بعد أن فقد الطاؤوس ريشه طيلة عقدين هما الأقرب إلى جوهر الإهمال الطارد لكل ما هو مثقف ضمن اليومي والمعاش، الذي يبتعد في رأيي كثيرا عن حدود الاستقرار والاطمئنان في حالاته المختلفة، وعلينا أن نعترف بأننا لسنا في وضع يشبه بلدان الوفرة عندما نقارن المشهد الثقافي المحلي أو الإقليمي بالآخر.فهناك دائمـا مشكلة عندنا تتعلق بالظرفين الزماني والمكاني (المعوقات) .. مشكلة تتعلق بالسلطوي والمستبد وخلافه.لهذا السبب أنا لا أميل إلى الرد على الأسئلة الصادمة المشبعة بـا لماذا، وكيف، وأين، دون الولوج في الشأن العام بمعناه الذي نفهمه أو بمعناه الخاص، فهناك تجارب يستحيل حصرها في كاتب واحد أو شاعر واحد، مهما كانت مكانته، وهناك كتب تـطبع ولا تـقرأ، وكتب جميلة للغاية ونادرة لا يعاد نشرها، وهناك تجارب عامة وسير ذاتية غير مترجمة وهكذا.وقد تكون الصحافة اليومية وهي ما يخصني تساعد على تنوع كتابات الشعراء مثلا وهم قلة خاصة الذين لم يكتبوا غير الشعر، أما الثقافي في العمل الصحفي أو الكتابة للصحافة اليومية ما تزال محدودة جدا على الصعيد المعرفي عمومـا والثقافي على نحو خاص.ربما المدقق يرى في الكتابة بالصحافة اليومية عمل قلم التحرير،والموضوعات المعلبة الآتية من النت هي أهم من الصناعة المحلية التي قد تكون تمتلك الكثير والمميز لتقدمه إلى القارئ المتلقي ، ومع هذا تـقزم .حتى العمود الثقافي باعتباره مفتاح الصفحة وبوسعه أن يندرج في إطار ما هو موجود ليعلق على ظاهرة ما، أو يستحث تجربة ما على غيرها، في معظم الأحايين، يفتقد لمصداقيته عندما يكون عشوائيـا أو متخمـا بالأسئلة من دون إجابات شافية أو يعج بالمجاملة.والقصة مثلما هي إنجاز إبداعي سردي متقدم يسعى المثقف إلى تقديمه عبر (الصحافة اليومية) فإن الأخيرة تسعى أيضـا إلى تصفية حسابها مع كذا رأي أو وجهة نظر ولا ينجم عن ذلك المسعى الخطير سوى تطفيش الكتاب أو إهمال نصوصهم لأن هناك من يمنع تقديم هذه الرؤية أو تلك ولكن لا يبوح باسمه ولا يعطي أمرا مكتوبـا لإقصاء هذا أو ذاك ممن لا يرغبون بكتاباتهم النقدية اللاذعة أو بعباراتهم الموجهة، فهذه الأوامر تكون شفوية بإبعاده وحادة كالسكين.قد لا ترى مثل هذه الأجناس السردية النور بفضل الإعلانات وقد تحجب الصفحات الثقافية لأيام، وتصبح أشبه بموضوعات الحائط بعد فتور أقلام كتابها.على هذا النحو ربما المشهد الثقافي في العمل الصحفي اليومي يمنحنا التعب والملل حتى أن الراحة المؤقتة لا توجد إلا في حدود الممكن، من هنا بدأت ترتسم الأخاديد الغائرة والغامضة لضياع مشاريع ثقافية مهمة لشعراء وكتاب قصة ونقاد حتى هذه اللحظة.ومع أن المثقف يكتشف أيضـا عبر المقالة والنقد الانطباعي أشياء تزاح عن مواقعها أو تلبس المثقف خلاف دوره، وقد ينزلق من ذا الموقع إلى موقع آخر فيبدأ برحلة التيه، - كما يعبّر عن ذلك (عوليس) - في روايته عن التيه.لتلك الأسباب ولأخرى أكثر أو أقل وضوحـا يعزل المثقف الحقيقي نفسه عن الراهن فلا يسمع عنه الناس ولا يقرؤون له إلا في حدود ضيقة جدا سرعان ما تتداعى في الذاكرة.فهل الثقافي في بعد من أبعاده ركيزة للصفحة الثقافية اليومية القائمة تقريبا على هامش المشهد، هذا ما يخص الصحافة وحدها، وهو في الأغلب ما يجمعها بالخبر الأدبي مثلا بوصفه جزءا من اللحظة الخبرية فتحتشد وتتداخل بالخارم بارم، إضافة إلى أنّ العناصر الحكائية في الخبر الثقافي تجيء بلغة حصل وحصل وحصل على طريقة الأخبار الاجتماعية والمثقف هنا ينقطع بذلك تمامـا عن الأدبي، لأنّ نفسه الشعري والأنماط السردية المتعارف عليها تـهمش!!عمومـا لا أدري إذا كا ن الحضور الثقافي هو ما يفعل ذلك أم الغياب الثقافي؟ولعل الصحافة اليومية تكفي لتغطية المشهد العام! إن وجد، أم أنـه ينبغي البحث عن جوانب أخرى تتعلق بنوستالجيا المثقف أي اغتراب المثقف الذي أصبح أكثر شقاء وبعدا عن تبيان طبيعة الأحلام والطموحات التي جعلت من ا لكتاب الكبار قادرين على توجيه العبارة.وكثيرون هم (الكتاب) الذين لا يجيدون مهنة مسح الجوخ التي تغري البعض بوضع الحافر على الحافر (على حثيث رديء).هؤلاء لا يجدون حرجـا في الاستجارة بالتاريخ وبكل عزيز ونفيس من إرث حضاري وتراث مادي وأخلاقيات ومع هذا نرى أن المثقف اليوم أسلم نفسه للشتات والاقتلاع بسبب نزاعات وحروب ومجاعات وأوبئة جعلت بالفعل المجتمع العربي مجتمع نخبة والباقي مفقود على حد تعبير الناقد العربي الدكتور (برهان غليون).واليمن إذا جاز التعبير تأتي ضمن هذه الصورة للمجتمع العربي، الذي أصبح يجلس القرفصاء أمام مسرح الحنين للزمن الأسطوري الملحمي باعتباره امتيازا بعرف ذاك الزمن - على تعبير الشاعر العربي (أمجد ناصر) - في ظل الهامش والرتابة اليومية في ظل معاناة الكاتب الصحفي والمثقف من مافيا الغذاء والدواء والإيجار والأسعار والماء والكهرباء، في كل التحولات الضاربة جهات يومنا الأربع بسبب قبائل رأس المال؟
أخبار متعلقة