كنت ضيفاً على البرنامج الحواري المتميز (6/6) الذي يقدمه الإعلامي المعروف يوسف عبدالحميد الجاسم- وهو بالمناسبة حصل مؤخراً على المركز الأول في استطلاع المشاهدين بالكويت- مع آخرين فاضلين، هم الدكتور عادل الفلاح، وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والأستاذ سامي النصف، الكاتب الصحفي. كان موضوع اللقاء “الوسطية بين النظرية والتطبيق”، ولعل من تمام الفائدة وتعميمها، إشراك القراء بأهم ما دار في الحوار. ما هي “الوسطية”، ومن هو الوسطي؟ ومن هو المتطرف؟ وما المعيار؟ وما أسباب التطرف؟ وكيف نفعّل ثقافة الوسطية في المجتمع؟ وما هي الآليات؟.. كل هذه الأسئلة وغيرها كانت محاور ذلك اللقاء المفيد. بداية فإن الكويت تتبنّى مشروعاً ضخماً باسم “الوسطية منهج حياة”، عبر وزارة الأوقاف التي شكلت لجنة “تعزيز الوسطية” و”مركزاً عالمياً” لنشر الوسطية. وعودة للتساؤلات، فقد لا يثير مفهوم “الوسطية” في اللغة والتراث أية إشكالية معرفية، فالوسطية صفة ممدوحة في القرآن والسنة واللغة والتاريخ، وهي ترادف “الخيرية” و”واسطة العِقد” أنفسهما، ولكن “الوسطية” على مستوى التجسيد والتطبيق والتفاصيل تثير إشكاليات عديدة، لأن كل الأطراف تدعيها كـ”الديمقراطية” حتى الأنظمة القمعية تنتسب لها. كلنا ندّعي الوسطية وكلنا عشاقها ولكن لكل طرف مفهومه الخاص، فالذين فجّروا أنفسهم في نيويورك ولندن والدار البيضاء والرياض، يرون أنفسهم “وسطيين” وغيرهم متساهلين، والذات لا تحكم على نفسها إلا بما هو جميل، ووصف “اللاوسطية” بحقها يأتي من الخصم، وأهل “السنة والجماعة” يرون أنفسهم “وسطيين” مقارنة بالخوارج والشيعة. وفي داخل السنة، يرى “السلفيون” أنهم “الفرقة الناجية” وأنهم الوسطيون. وهكذا تصبح “الوسطية” في نهاية المطاف، مفهوماً “إقصائياً”، وكأن الجنة لا تسع إلا فرقة واحدة! وقد تُفهم “الوسطية” فهماً “تلفيقياً” بمعنى “إرضاء الأطراف المتعارضة” وهو “حل” سياسي لا “حق” أخلاقيا. ولذلك ينتقد البعض مفهوم “الوسطية” لأنه “مُبهم” وخال من المضمون ولا معنى له لتضارب تفسيره وتطبيقه، وهذا يذكرني بالجدل الذي يدور حول تعريف “الإرهاب”. ومع ذلك أتصور أن تضارب التفسير والفهم وكثرة المنتسبين إلى “الوسطية” ولو ادّعاءً، لا يحول دون وجود معيار عام يحدد ويفرز الوسطية عن غيرها. أتصور أن “قبول الآخر” و”التسامح” و”ثقافة الحوار” و”احترام المبدأ الديمقراطي” و”رفض احتكار الوطنية والدين والصواب” و”احترام حق الإنسان” و”احتضان الإنسان لأنه إنسان”... كلها “مفاهيم” من يقبل بها ويحتكم إليها فهو وسطي، وهي من الوسطية التي ننشدها. واختلاف التفسير حول “الوسطية” لا يمنع الاتفاق على الحالات التي تصنّف بأنها من الوسطية عن غيرها من قبل أكثرية غير مشحونة “سياسياً أو أيديولوجياً أو طائفياً” وفي مناخ ديمقراطي يراعَى فيه “العدل” و”الحرية” و”القانون”. الآن: ما هو التطرّف؟ التطرف “احتكار الدين أو الوطنية أو الصواب والحقيقة”، والمتطرف هو من يكفّر أو يجرّح عقائد الآخرين، وهو من يخوّن الآخرين ويتهمهم بالعمالة والتبعية للخارج كما في الخطاب التخويني لـ”حزب الله” وبقية الأحزاب القومية والدينية “الإيديولوجية والعقائدية” من يدعي أنه يملك الصواب المطلق. ما أسباب التطرّف؟ التطرف ظاهرة اجتماعية مركبة وهو مرض يصيب العقل والنفس فيصبح المرء كارهاً للحياة والأحياء يستسهل “القتل” و”التدمير” هرباً إلى الجنة وحورها، وعوامله عديدة: “التنشئة والتعليم والخطاب الديني التحريضي والفتاوى المتشددة والإعلام والبيئة المتشددة الحاضنة”. وأتصور أن “الخبرات الطفولية المؤلمة” هي الأقوى تأثيراً، فإذا حُرم الطفل من “محضن تربوي آمن” نتيجة تفكك الأسرة أو خلافاتها بسبب زوج متسلط أو منقاد لنزواته، و”جميع المتطرفين ضحية أسر تعيسة بائسة”! ثم تعليم تعصبي أو معلّم متعصب غذّى عُقُد الطفولة لدى المتعلم وضخّمها وهيأ النفسية والعقلية القابلة للانزلاق إلى أحضان الجماعات المتطرفة. الآن ماذا يعني الاهتمام بتعزيز “ثقافة الوسطية” كعامل تحصين يقوّي المناعة الداخلية للمجتمع ضد أمراض التطرف والغلو؟! أتصور أن أوضح دلالة لهذا الاهتمام بالوسطية هو نسف كل الادعاءات الأيديولوجية التي كانت ولا زالت تحمّل الخارج مسؤولية التطرّف. لقد ظل الخطاب الديني والقومي نصف قرن يحمّل الخارج مسؤولية تردّي أوضاعنا، واستمر يحارب “الغزو الفكري” حتى أتانا الغزو من الداخل، من قبل أبنائنا الذين لم نحصّنهم ضد ثقافة الكراهية، لم نقوِّ مناعتهم بثقافة الوسطية والتسامح والاعتدال! إن هذا الالتفات من الخارج إلى الداخل هو البداية الموضوعية لتشخيص الداء، لا سياسة الكيل بالمكيالين ولا فلسطين ولا العراق ولا مظالم أميركا والاستعمار السابق ولا حتى مظالم الأنظمة العربية أو الظروف الخانقة والأوضاع المحبطة، مسؤولة عن ظاهرة التطرف، لسبب بديهي وبسيط، هو أن “التطرف والعنف” عنصران أصيلان في تاريخنا وثقافتنا الاجتماعية الممتدة منذ “الجاهلية”، وإلا فهل من مبرّر خارجي لتطرّف “الخوارج القدامَى”؟ ويبقى تساؤل أخير: كيف نفعّل ثقافة الوسطية في المجتمع؟ البداية الموضوعية للتفعيل، هي-أولاً- في الكفّ عن لوم الآخر، و- ثانياً- الاعتراف بقصور منابر ومؤسسات التوجيه “الخطاب الديني والتعليمي والثقافي والإعلامي” في تعزيز ثقافة المناعة والتحصين المجتمعي. و-ثالثاً- تبنّي المنهج النقدي وإشاعته. ومن هذه المنطلقات أتصور: 1- المصداقية في دعاة الوسطية، بحيث تتجسد “الوسطية والاعتدال” في السلوكيات وبخاصة في اعتدال مواقفهم تجاه الآخرين المخالفين لهم02- تطوير المناهج التعليمية، وتجديد الخطاب الديني، بتخصيبهما بالنزعة الإنسانية واحتضان الإنسان (كونه إنساناً) وتضمينهما “المنهج الوسطي”، فأقتل داء للوسطية أننا نفتقدها في الخطاب الديني السائد، إذ نراه غاضباً محرّضاً. 3- ضبط الفتاوى المتشددة، والمنابر المكفّرة أو المحرّضة، ومن ثم “تجريم” أصحابها ومساءلتهم “قضائياً” بإصدار تشريعات وطنية، كما فعلت الأردن وطبقاً لقمة مكة وقرار مجلس الأمن الدولي. 4- تعزيز “قيم المواطنة” وإعلاؤها فوق الانتماءات الأخرى “القبلية والطائفية والأيديولوجية” 5- تفعيل القواسم المشتركة، سواء بين المذاهب أو الأديان أو ثقافات الأمم. 6- تثقيف الأئمة والخطباء عبر دورات “حقوق الإنسان” و”المعارف الإنسانية”. وفي النهاية: لا يولد الإنسان وسطياً أو “ديمقراطياً”، ولكنها الثقافة والقيم والتوجيه والتربية والسلوك والممارسة المجتمعية المستمرة. كل هذا، حتى لا تبقى الوسطية مجرد “شعار” كبقية شعاراتنا الخالدة! [c1]* مفكر واكاديمي قطري[/c]
حتى لا تبقى ( الوسطية ) مجرد شعار!
أخبار متعلقة