[c1]* القيم الإنسانية الكبرى لا تشيخ!! [/c]يقوم الفنان الكبير مارسيل خليفة منذ الاسبوع الماضي بزيارة إلى وطنه اليماني في مهمة فنية وثائقية .. حيث يقوم برفقة مخرج سينمائي فرنسي بتصوير فيلم وثائقي عن الآثار اليمنية التاريخية في العديد من المحافظات اليمنية.(فنون) تقدم هنا جوانب من حياة وتاريخ مارسيل خليفة حيث يتحدث عن فترة طفولته وبداياته الفنية..[c1]يقول الفنان مارسيل خليفة معرفاً نفسه .. من أي ايقاعات وهواجس وحسرات وافراح يأتي.. وإلى أي مدى يطمح:[/c]* أنا أتي من تلك السهول الواسعة القريبة من الشاطئ الصخري من تلك السهول البحرية الجميلة التي لم يكن قد بني بعد فيها لا معمل الحديد ولا معمل البيرة ولا محطة الإرسال الإذاعية، ولا الشاليهات والمشروعات السياحية الخاصة!!كانت هناك بيوت قليلة وخيم خشبية لعمال تلك الاراضي يقطنون فيها فصل الصيف ومواسم القطاف.. كنت اقضي طفولتي عند جدي في بستان صغير يملكه من أطراف تلك السهول .. حيث النسيم وعين الماء الرقراقة وابريق فخار تفوح منه رائحة النعناع فيروي ظمآن .. وكانت (الفزاعات) لتخويف الطيور والمثبتة على الأرض بين مساكب الخضرة تفزعني وكان جدي يتفنن في تلك الفزاعات وخاصة عندما يضع طربوشه العتيق على القصبة الطويلة في وسط السهل ( تتدلى ) تحتها سترة سوداء طويلة ما عادت تصلح لقامة دي المنحنية .. كنت أخاف تلك الفزاعات، وخاصة عندما يرسل القمر نوره الرمادي الخافت فكان يضفي على الجو مسحة من الرعب فاحول نظري إلى فوانيس الصيادين التي تلمع من بعيد.. وكنت أراها من على الشاطئ بوضوح.. وكانت (قعقعة) القطار تصلنا من السكة، حيث كان يمر مغطياً صوت ستي المبحاح، والقطار الذي كان ينقل المواشي والبضائع كنت انتظره بشغف ليسحق مسماراً وضعته على خط السكة مندفعاً كالصاروخ مشوشاً مظهر البساتين مخترقاً بخطوطه سلام ووداعة تلك السهول خارقاً طبقات الفضاء الفسيحة بصوته الاجش متجهاً نحو الشاطئ ليغيب بعدها عن نظري.وكان يجتمع في تلك السهول كل أطفال المحلة وخاصة في العطلة الصيفية لنصنع الطيارات الورقية ولننتظر هبوب الريح الغربي لنتلاعب بتلك الطيارات ونخاف ان تجذبنا إلى الفضاءات الواسعة.. وأحياناً كانت ترمينا من "جل" إلى "جل" وتتكسر رقابنا من قلة درايتنا بقيادتها ونسمع من بعيد نباح الكلاب من خيم "النور" تحت جسر الدرجاح.. وكنا نواصل السير حتى نبلغ خيمهم ندخل ونحني رؤوسنا للخيمة الكبيرة التي كانت تبهر عيوننا بما في داخلها من قماش مطرز ورسوم "ياهلا ورحب" ويبدأ سعيد بالعزف على البزق بمرافقة أزنير (الجيز) وذبذبة الذباب حتى تغيب الشمس.أغانٍ بدوية ذات حنين جارف ترددها مع سعيد .. والاصوات والألوان كانت تغطي تلك السهلة الفسيحة في جسر الدرجاح العتيق' حيث كان هؤلاء القوم يخيمون في الشتاء .. وفي الصيف يرتحلون إلى الجبال القريبة وترتحل تلك الألوان والاصوات بما فيها من خيم وبشر. استهوتني حياة هؤلاء (النور) المتنقلة بما فيها من تحرر شاعري خلاق.[c1]الشعر الشعبي[/c]يواصل مارسيل خليفة شريط الذكريات ليتذكر الماضي الجميل الذي ساهم في تأسيس الحاضر، وربما المستقبل .. حيث يقول:في ذاكرتي الكثير.. فمازلت أذكر تراتيل كنيسة مار اليشاع والخوري بطرس وجموع المصلين تبتهل بأبسط ما يكون من تلاحين شرقية جميلة.. وتلك الكنوز من الألحان المعبرة والجميلة كنت استرجعها في أغان وموسيقى واهزج بها من حين لآخر.. وهناك ترتيل من نوع آخر في مدرسة (الغرير) الاسلوب البوليفوني أي الغناء بطبقات متعددة وسطور لحنية مختلفة في وقت واحد.. حاولت بعد ذلك ادخال البوليفونية إلى جوقة أولاد الحي.. ولكن الشعر الشعبي العام ظل يؤثر اللحن المفرد.. فما حاجة الشعب الى ذلك التعقيد البوليفوني الآتي إلينا من مدرسة ( الغرير) والذي علق باللحن المفرد وكأنه النبات الطفيلي يلتف على جذع شجرة السنديان العتيقة في حوش المدرسة!!
الفنان / مارسيل خليفة
[c1]آلة العود[/c]* ويؤكد مارسيل ما يقال بان لآلة العود بين يديه لها أكثر من معنى:* في الموسيقى التي كتبتها وأديتها على آلة العود، نرى الصراع المستمر بين المؤلف الموسيقي والمؤدي.فالمؤلف والمؤدي يتعايشان معاً.. حتى ان عملية الخلق الموسيقي يمكن ان تعد عملاً مشتركاً ومتبادلاً لا يجتمع المؤلف والمؤدي على تحقيقه في صورته الكاملة؟* ولكن .. كيف تعرف مارسيل خليفة على آلة العود للمرة الأولى؟ يقول:* أمي .. بنظرتها الثاقبة والواعية ساعدتني كثيراً على سلوك الدرب الصحيح في طريق الفن الطويل على الرغم من معارضة المجتمع الذي كان الفن في نظره (للتسلية والتفرفش) وكانت تدافع عن خطواتي هذه عندما تسمع أهل الضيعة يتهامسون (نازعينو لها الصبي) أي (أفسدوا هذا الصبي) شو بدو يطلعلو من العود شو بدو يعمل بالموسيقى؟! ولم تكن هذه العبارات إلا لتدفعها أكثر فأكثر لمساعدتي على تثبيت موقفي الفني وخاصة عندما اقنعت والدي بان يشتري لي عوداً من الشام وكان سعره يومها 25 ليرة سورية. ودخلت هذه الآلة الوترية الى بيتنا الصغير، بعد ان كانت آلاتي الموسيقية محصورة بالطاولات والطناجر وعلب الحليب الفارغة وكراسي الخيزران العتيقة وقضيب الغزار اليابس!العود كنت أراه في الصور.. وأحيانا قليلة أشاهده في التلفزيون اسمعه من الراديو ولكن ان يكون في البيت ومعي بالذات .. فهذا أمر لا يصدق.وقد كان حصولي على العود لأول مرة عوداً حقيقياً وانتقلت مباشرة من الضرب على الآلات الايقاعية المنزلية الى الضرب على آلة العود من دون ان اتحكم في اوزانه ولكن كنت انقر بريشة النسر كيفما وقعت ولامست الوتر مشدوداً كان أم مرخياً!![c1]النص الشعري الحديث [/c]* ويتحدث مارسيل خليفة حول البدايات.. عن اللحظات الأولى في مسيرة الحياة والفن عن الانطلاقة الأولى والنغمة الأولى.. كيف تكونت خطوط ذلك الحلم الذي مازال مستمراً؟.. يقول مارسيل لصديقه الشاعر اسماعيل فقيه عن تلك المرحلة:* سؤالك هذا ياصديقي الشاعر يفتح باب الذاكرة ولا يغلقه يجعلني اشرد إلى أجمل اللحظات.. يجعلني اتلمس واتحسس الخفقات الأولى التي دبت في نواحي ايامنا!!أعود بالذاكرة قليلاً إلى منتصف السبعينات في بيروت.. عندما فار المجتمع وشعر الناس برغبة شديدة في الحياة.. واندلعت تساؤلات جديدة في المسائل الثقافية .. وكان الزمن زمن التجارب.. زمن البحث عن صيغة جديدة تصلح بين الثقافة والحياة.. بين الفنون ولغة الناس.فقد انتشر الانفعال إلى شتى المجالات الموسيقى الاغنية الرسم الشعر المسرح السينما وتشكلت المجموعات واجتمع الأفراد الذين دفعتهم الحاجة الى التعبير والرغبة المشتركة في التخلص من سلطان الاشكال السائدة.ان مجموعة هذه التجارب المتداخلة أحياناً، السريعة الزوال في الأغلب، غير الثابتة في قواعدها والمحكوم عليها بالاخفاق والتحول.. ساهمت في خلق مناخ خصب للغاية عزز نمو البذور الثقافية في بيروت.. في ذلك الزمن تعرفت إلى بعض الشعراء الشباب.. تعرفت إليهم وحدي عبر قراءات شبه صامتة لنصوصهم الشعرية الحديثة .. قراءات تحاول ان تشرح القصيدة قراءات تحاول ان تضفي معنى آخر على القصيدة ومقاربات لهذه النصوص يغلب عليها طابع الحذر والخوف المصاحب دائماً لأي مشروع جديد.. بخجل وتردد رحت أعرض تصوري لضرورة غناء النص الشعري الحديث.. ولم يكن معي في خلوتي الشرقية في بداية الحرب الاهلية اللبنانية سوى العود ودواوين محمود درويش .. افتح احدها بين الحين والآخر واستخرج المقطع او الجملة المناسبة لتصوري.. مقارناً بين الايقاعات اللغوية والمعنوية وبين الإيقاعات الموسيقية.كان ذلك في نهايات 1975 مع بدايات الحرب الأهلية في لبنان.. كل لحظات تلك المرحلة مازالت ماثلة في ذهني كما لو انها تحدث الان.في ليل حار من شهر أغسطس سنة 1976 دخلت استوديو (اكوستي) في مدينة باريس مع بعض الالحان المدونة لـ (خبز أمي) و(عيون ريتا) و(جواز السفر).. سجلت أغاني وعود من العاصفة.* وعندما يسأله صديقه الشاعر اسماعيل فقيه عما يقوله عن تلك المسيرة وكيف يصف استمراريتها وإلى اين سيصل بغنائه وموسيقاه؟ يقول مارسيل بثقة:* ليست لدينا معجزات .. لدينا مخيلة واحلام مكبوتة سنستأنف مع الناس ايقاع الحياة ونواصل الرحيل الشاق نحو البحث عن نقطة ضوء لبداية تتجدد لارتماء طفولتي في احضان الذاكرة للاحتجاج على فساد أشياء العالم.. لغضب عاصف على اثام الحرب ولتورط صاخب في الحب!لا نبدأ من الصغر.. بل نواصل البدايات من خلاصة التراكم وتراكم التجارب والتضحيات.منذ ذلك الزمن ونحن نقلب المدن صفحة وراء صفحة من أجل البلاد التي تنهال على القلب متعبة.. نحملها ونعلن استشهادها على الرغم من الوجع الذي يشتد والقهر الذي يلتف مثل حبل على العنق ليطوي رقاب الناس!المهمة صعبة.. لكننا نلعب الموسيقى لتأخذنا إلى البدايات.. إلى اجمل حب على الرغم من استحالة الأشياء وصعوبتها في زمن أبيحت فيه المذلة والقتل والإرهاب والجوع!وعن الحب وبيروت في حياة مارسيل خليفة يقول لمجلة (دبي الثقافية).الحب هو الوردة السرية الجميلة المخبأة في دواخلنا .. تمدنا بالقوة والحرية وتمنع فساد الحياة!أما بيروت فلا أدري ما الذي يشدني هكذا إلى بيروت.. إلى هذه المدينة الرائعة والبشعة الرومانسية والمتوحشة في آن.. مدينة الصراع المستمر بين النزوع التنويري والميول الظلامية!!.. حين أكون في بيروت أشعر بتلك الرغبة الثقافية المتاججة لاشعال شمعة ولعن الظلام .. أحاول قول الأشياء بلغة غير الكلام.. أقولها بالموسيقى وبالصمت معاً.. ولكن في الموسيقى تكمن الغربة والحنين الى الماضي وإلى المستقبل المجهول!!