برهان أحمد إبراهيمعلى الرغم من مجون وتهتك أبي نواس ومن ذانتيته الموغلة في مسارب النزق والعبث ، إلا أنه جانباً أخر مغايراً يشهد له بيقظة الوعي، وصدق الاحساس، وبقدر من المسؤولية، وبتجربة حياتيه خصبة، ساعد على اثرائها فكره المعرفي المنهجي، فاستقت منه قواعد البحث والرصد، وأخذت عنه عناصر التحليل والنقد.ومقالنا هذا لايسعى الى اصدار حكم ببرأة الشاعر أو ادانته، وإنما هو محاولة لتناول ذلك الجانب الاخر، وربما المجهول، الذي توارى، أو كاد يختفي من صفحات سيرة (أبي نواس) بفعل ما اثاره من زوابع المجون، لنقف أمام شاعر، عاش متفاعلاً مع محيطه، وادرك قضايا عصره، معلناً موقفه منها،، حتى وإن خاض وأفرط في ضروب اللهو والعبث، مظهراً عدم اكتراثه.[c1]"هذا زمان القرود فاخضع وكن لهم سامعاً مطيعا[/c]البيت للشاعر العباسي (الحسن بن هانئ) الشهير بأبي نواس، الذي ذاع صيته، مخترقاً حاجز الزمان والمكان، فنال من الشهرة والانتشار مالم بنله شاعر آخر، فمن منا، لم يسمع بعضاً من سيرته، أو شيئاً من شعره، ونوادره، حقيقة أو خيالاً؟!! ومن منا لم ترتسم، على شفتيه ابتسامة إعجاب، وربما استخفاف إذا ماطرق سمعنا اسمه؟!! عرفه العامي ، مثلما عرفه المثقف، غير أن العامة، وباعجاب عفوي، نسجت له من خيالها، حكايات، ونوادر، بل وأشعار فإذا به، في أكثر من صورة، وفي كل العصور، وفي سائر البلدان، لكنها- اي العامة- وإن اختلفت في تحديد حقيقة عصره وموطنه، اتفقت اتفاقاً أكيداً، على نباهته، وكياسته، وخفة ظله، إذ كان.. في جميع ذلك حلواً ظريفاً. يسحر الناس لظرفه وحلاوته ومثرة ملحه.. لنجد عقول الناس، والسنتهم تروي عنه في شغف لايدانيه شغف، اخباراً وقصائد، بل وتضيف اليها ، بدافع عشقها للشخصية، حتى تحولت الى مايشبه الاسطورة، والى شخصية تراثية فلكلورية، تجسد دلالات اجتماعية احتجاجية ، وبذلك ، تخطت به العامة، منطق الزمان، وحدود المكان، فكان ان كان بشخصيتين::--شخصية كونتها وشكلتها، الذاكرة الشعبية،بما لتلك الذاكرة من حضور وإعجاز، يفتحان لها منافذ الخيال فإذا بنا أمام شخصية خارج إطار الزمان والمكان، وهي في كل الاحوال، فكهة، صاحبة مذهب ظريف، تتصف بالذكاء، وبالقدرة والكياسة، تناصر الضعفاء، وتسخر من الظالمين العتاة، وغالباً ماعبرت هذه الشخصية الفلكلورية، عن موقف اجتماعي منحاز للبسطاء والعامة...-وشخصية اخرى لاتخلو- ايضاً من الفكاهة والنباهة، غير أنها محققة، لها وجودها التاريخي والابداعي، تحفظها أمهات الكتب، وتستثير اهتمام المتخصص العارف بآداب العربية.. ومن هنا، تحقق لأبي نواس، مالم يتحقق لغيره من الشعراء قديماً وحديثاً، من ذيوع وشهرة وقدرة فريدة على اجتياز حدود الزمان والمكان.أبو نواس شاعر، استنفر النقاد، واستنزف اقلامهم فتعددت مواقفهم تجاه فنه وشخصه، قلب بطناً على ظهر، فلم يتركوا فيه امراً، إلا واشبعوه تناولاً ونقداً، فكثرت نعوتهم فيما يخص شخصه، فقيل عنه:الماجن ،العابث، الزنديق، الشعوبي...أما عن فنه فقد "قامت حركة حول أبي نواس لتمييز شعره، ومايقال عن سرقاته ووضعت الكتب في اخباره..." غير أن كل ذلك لم يمنع اتفاق النقاد واجماعهم، على علو شاعريته وأصالة إبداعه، فها هو (أبو عمرو الشيباني) يشيد بشاعرية أبي نواس، رغم تحفظه على شخصية الشاعر: "لولا ما أخذ فيه أبو نواس من الرفث لا حتججنا بشعره لانه محكم القول (4) "اتفق الكل، فكان الاجماع على إبداعه الفني" كان أبو نواس أدب الناس واعرفهم بكل شعر، وكان مطبوعاً لا يستقصي، ولا يحلل شعره".المكانة الأدبية الرفيعة التي بلغها أبو نواس، لم تكن ابنة موهبته فقط، بل عمد على تجويدها وإثرائها بحصيلة ثقافية، دلت علي حبه للمعرفة، واجتهاد عظيم، أكان في علوم اللغة والشعرن أو في علوم الدين والفلسفة فاذا به أبنة أبناء عصره، اذ "كان أبو نواس عالماً فقهياً عارفاً بالاحكام والفتيا بصيراً بالاختلاف، صاحب حفظ ونظر ومعرفة بطرق الحديث، يعرف ناسخ القرآن ومنسوخة ومحكمه ومتشابهه. وكان أحفظ لاشعار القدماء والمخضرمين وأوائل الإسلاميين والمحدثين(6) "عشق أبي نواس للمعرفة، جعله يشد رحاله إلى بوادي العرب، باحثاً عن منابع اللغة العربية، حيث استقر فيها قرابة عام، مفتشاً ومستقصياً ومنقباً عن صفاء اللغة وغريب الفاظها. بل ان ذلك العشق دفعه إلى طرق باب الفلسفة، إذ تخبرنا الروايات انه احد تلامذة إبراهيم النظام) اشهر دعاة المذهب الاعتزالي في ذلك الوقت، فكان ابو نواس في مضمار العلم والمعرفة واحد زمانه في ذلك (7).وإذا ما كان أبو نواس قد انغرس في حياة المجون، وعرف عنه التهتك والنزق والانفلات الاخلاقي، سعياً وراء اللذة، مما جعله هدفاً هيناً للانتحال، موضوعاً غنياً لوضع الحكايات، ونسج المبالغات، حيث مثل اسمه، مادة طيعة ومقنعة لانتشار وقبول الشائعات، حتى كاد الخيال يغمر حقيقة شخصيته، ليتحول بذلك إلى أسطورة دالة على الانحلال الاخلاقي لكثرة ما نسب إليه، إلا أن له جانباً آخر مغايراً يشهد له بيقظة الوعي، وصدق الاحساس، وبحضور المسؤولية وبتجربة حياتية خصبة، ساعد على إثرائها فكره المعرفي المنهجي، فاستقت منه قواعد البحث والرصد وأخذت عنه عناصر التحليل والنقد.. ومقالنا هذا لا يسعى إلى اصدار حكم ببراءة الشاعر أو ادانته، وانما يتناول الجانب الآخر، وربما المجهول الذي توارى أو كاد يختفي من صفحات سيرة ابي نواس، بفعل ما أثاره من مجون وما احدثه من موجات العبث لنقف أمام شاعر عاش متفاعلاً مع محيطه، فأدرك قضايا عصره الثقافية، والاجتماعية والسياسية، وأعلن موقفه منها، فأكد بذلك، أن وعي الفنان، ولوجوده ككائن مبدع، يتشكل عبر حلقات متتابعة، من عمليات التأثير والتأثر، الناشئة من تجدد احتياجاته الروحية والمادية، ليكون الوعي بذلك، في حالة دائمة، على قدر من المسؤولية الاجتماعية، نتيجة لعلاقاته ومنافعه المتبادلة مع مجتمعه، حتى وإن خاض وأفرط في ضروب اللهو والعبث، مظهراً عدم اكتراثه، لذلك جاء شعره نابضاً بالحياة، تنبعث منه أنفاس وملامح عصره، وتتحرك فيه مشاعر مجتمعه، فإذا بشعره أشبه بمسرح، تلاقت فيه نماذج بشرية، لقطاعات واسعة متباينة الطبقات، ومتنوعة الشرائح، فإذا بديوانه وقد حفل بألوان من الشخصيات، فهناك شخصيات ذات شأن، تحتل قمة المجتمع، من أمراء ووزراء، وولاة، وقضاة، كقوله في البرامكة:[c1]كل بني برمك كريم استغفر الله.. غير واحدخولف في خلعة فوافي يمزج من صالح بفاسد[/c]وشخصيات تعبر عن شريحة المثقفين، من علماء وأدباء ومتكلمين، كقوله في الشاهر داؤد بن زرين، رواية بشار بن برد:[c1]إذا أنشد داؤود فقل أحسن بشارله من شعره الغث إذا ماشاء أشعار[/c]وأخرى تسكن قاع المجتمع، من خدم وجواري وسقاة وصعاليك، كقوله في قيان موسى: [c1] إذا ماكنت عند قيان موسىفعند الله فاحتسب السرورا خنافس خلف عيدان قعوديطول قربها اليوم القصيرا [/c] بل ونلتقي- أيضاً- بنماذج تمثل أجناساً وديانات مختلفة، فنرى أبا نواس مرة مع يهود، وأخرى بين نصارى: [c1] مزنر يتمشى نحو بيعتهإلهه الإبن فيما قال والصلب ياليتني القس أو مطران بيعتهأو ليتني عنده الإنجيل والكتب [/c] إن قدرة أبي نواس، على إقامة بنية غنية من العلاقات، الإنسانية، مع كل ألوان الطيف في مجتمعه، المتصف بتعدد وتنوع عرقي وطبقي وديني، دليل عملي، على وعيه المدرك وطبيعته المنفتحة، ومسؤوليته الحاضرة، مما وفر له قراءة موضوعية، وتكوين رؤية إنسانية، وتناغماًَ واضحاً مع الطبيعة الإثنية لبيئته: [c1] والقوم أخوان صدق بينهم نسبمن المودة مايرقى له نسب [/c] فالنسب الذي يجمع الشاعر بالناس كافة، ليس نسب رابطة الدم، أو الدين أو الوطن، إنما نسب المودة أي العلاقة الإنسانية، القائمة على الاحترام والتقدير.. وبهذه الرؤية الإنسانية الشاملة، يكون أبو نواس في طليعة الأمميين، دعاة الوحدة الإنسانية، بعيداً عن كل أشكال التمايز العرقي أو الطبقي أو الديني.ودون شك، أن تلك الرؤية، المتكونة من مجموع تراكماته الحياتية، والعلمية والفنية، قد مهدت له سبل هذا الانسياب الإنساني، والامتزاج بكافة ألوان الطيف، دون الاحتكام لمفاهيم متجذرة، وبعيداً عن أية تأثيرات إثنية: [c1] إن القلوب لأجناد مجندةلله في الأرض بالأهواء تختلف فما تعارف منها فهو مؤتلفوما تناكر منها فهو مختلف [/c] فعلى الرغم من استهجان المجتمع، ورفضه لحياة أبي نواس الماجنة، وسلوكه المنحرف، إلا أن ذلك لم يقلل من إعجابه بالشاعر الإنسان، إذ ظل أبو نواس، الأكثر قرباً، وشهرة في مجتمعه... اتصل الوزراء والاشراف... فصار مثلاً في الناس وأحبه الخاصة والعامة...ولعل في قصة اختفاء أبي نواس، عن أنظار أصحابه مدة من الزمن، حتى أشيع أنه قتل، وكيف أن هارون الرشيد غضب لذلك، وقال: "والله لأقتلن قاتله كائناً من كان" وأمره بالنظر، فيمن هجاهم النواسي، وكيف ارتجت بغداد لهذا الحدث/ لإشارة دالة على ما حظي به أبو نواس، من تقدير المجتمع، لحضوره الفني والإنساني،.. فلو أنه خامل الذكر، عديم الأثر، لكان أمر وجوده كعدمه، غير ذي أهمية، شأن المغمورين الذين يأتون ويمضون، دون أن يلتفت أحد لأمرهم،.. لكن، لأنه أبو نواس فغيابه أثار غضب السلطة، واستنفر قوتها، وارتجت له بغداد، فأقامها ولم يقعدها .
|
ثقافة
الجانب الآخر لشخصية أبي نواس
أخبار متعلقة