نبض القلم
إذا تأملنا في بعض الأحاديث النبوية الشريفة لرأيناها تعالج كثيراً من قضايا الإنسان المعاصر، رغم البعد الزماني والمكاني بين مجتمعاتنا المعاصرة ومجتمع العهد النبوي،فهي تصف بعض ما تعانيه مجتمعاتنا من امراض وعلل اجتماعية واقتصادية، وتقدم الحلول المناسبة لها إذا ما تم الأخذ بها. ومن تلك الأحاديث ما رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” بايعوني، على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك.”.يخبرنا الرسول(صلى الله عليه وسلم) في هذا الحديث الشريف عن خمسة أشياء إن وجدت في أي مجتمع تكون سبب خرابه ودماره، أما إذا اختفت منه، فإنه يصبح مجتمعاً سعيداً، تحتذيه المجتمعات الأخرى.يقول الرسول في مستهل الحديث الشريف:” بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً” فمن هو البائع هنا؟ ومن هو المشتري؟ وما هو الشيء المراد بيعه؟ أو على ماذا تتم البيعة؟.البائع هنا هم المؤمنون، والمشتري هو الله سبحانه وتعالى، أما الوسيط في هذه البيعة هو النبي محمد(صلى الله عليه وسلم) أما الشيء المراد بيعه، فهو المبايعة على خمسة أشياء، هي:* المبايعة الأولى: على توحيد الله، وعدم الشرك به، لأن الإيمان بالله درع واقٍ للإنسان من كل ما يحيق به من أخطار. والإيمان المقبول هو الإيمان الصادق، أي الإعتقاد الذي لا يخالطه شك أو ريب.* المبايعة الثانية: على عدم السرقة، والسرقة هي أخذ مال الغير خفية، أي أن المأخوذ حق للغير، ولا حق فيه لمن حصل عليه عن طريق السرقة، فالسارق ظالم معتد أثيم، سواء كان المال أو الشيء المسروق لفرد أو لجماعة أو لعموم المجتمع. وربما يكون الجوع أحد أسباب السرقة، وحتى لا يجوع الإنسان لابد أن يعمل، فإذا عمل جميع أفراد المجتمع أمنوا الفاقة وتحاشوا الجوع، بشرط أن يتعاونوا فيما بينهم على البر والتقوى، ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان. فإذا ما تعاون الناس على توفير فرص العمل، قلت البطالة وتضاءل الفقر، وتلاشت الخصومات، ووجد الفقير ما يقتات منه، فلا يضطر إلى السرقة، لأن المجتمع المتعاون على البر لن يترك الفقير يتضور جوعاً، بل يأخذ بيده، ويساعده لكي يأكل من عمل يده، فلا يتسول أويضطر للسرقة. إلا إذا كانت السرقة عادته أو صارت حرفته، فإنها تدفعه ـ عندئذ ـ إلى إيذاء مجتمعه، والاضرار بالناس، وهنا تكمن الخطورة، خاصة عندما يزداد عدد الذين يحترفون السرقة في المجتمع ولا يجدون من يردعهم أو يوقف نشاطهم العدواني على مجتمعهم.* المبايعة الثالثة: على عدم انتهاك المحرمات، أو الاعتداء على أعراض الناس، بالزنا وغيره، لأن في ذلك قلب للحقائق وينتج عنه اختلاط الأنساب، فإذا اختلطت الأنساب ضاعت صلات القربى، وتلاشى التراحم، وفي ذلك خطر على المجتمع، وربما يكون سبباً في انهيار المجتمع وفقدان تماسكه.* المبايعة الرابعة: على عدم إزهاق النفس البريئة، سواءً بالقتل المباشر بالسلاح أو السم أو آلة حادة، أو بالقتل غير المباشر بسوء التربية، فقول الرسول(صلى الله عليه وسلم): “لا تقتلوا أولادكم” يفهم منه النهي عن ترك الولد من دون رعاية، يساء تربيته، بحيث يصبح غير عابئ بواجب الأبوة، وغير معترف بحق الأسرة والمجتمع عليه، فينحرف عن قيم المجتمع وتقاليده، وأعرافه الاجتماعية، ويبتعد عن تعاليم الدين، فيسلك سلوكاً خاطئاً، ربما يقوده إلى الإجرام، وإذا صار مجرماً عرض نفسه للضياع، وربما يتعرض للهلاك والقتل. فإذا ضاع الناشئة ضاعت معه الأمة. لذا فإن حسن تربية الأبناء مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الأسرة والمجتمع والدولة.* المبايعة الخامسة: فهي النهي عن زرع بذور الفتنة في المجتمع والحث على قطع دابرها، فالإنسان الذي آمن بالله، واتبع رسوله، لا ينبغي له أن يدعي على الناس زوراً ما ليس فيهم، ولا يجوز له أن يرميهم بالباطل من القول أو العمل، ولا يصح أن يزور من عند نفسه ما يبهت غيره ليفضحهم، حتى لا تثار خصومات ولا تنشأ عداوات بين الناس تفسد المجتمع وتهدده بالضياع وتعرضه للإنهيار. وهذا هو المراد بقول الرسول(صلى الله عليه وسلم):” ولا تأتوا ببهتان تفترونه” والبهتان هو الكذب الذي يبهت الحقيقة وينسب إلى الآخرين أقوالاً أو أفعالاً لم يقولوها أو لم يفعلوها. والبهتان أضر من الكذب، لأن فيه افتراء، أو اختلاق الكذب، أي قول شيء لا أصل له في الواقع، وكثيراً ما يؤدي إلى فضيحة، وهنا تكمن خطورته وضرره الاجتماعي.فلماذا نحن في هذا العصر لا نبني مجتمعاً صالحاً بإتباع هذه التوجيهات الخمسة، حتى يلتئم شملنا، وتتحد كلمتنا، ويقوى مجتمعنا، وتتعزز وحدتنا الوطنية؟. [c1] إمام وخطيب جامع الهاشمي (الشيخ عثمان)[/c]
