نبض القلم
إن الإنسان تتوزعه عاطفتان : عاطفة حب ذاته، وعاطفة حب غيره، فهو من حيث كونه عضواً في المجتمع له شخصيتان : شخصية فردية، وعليه إزاءها واجبات فردية، وشخصية اجتماعية وعليه إزاءها واجبات اجتماعية. فالشخص البدائي هو الذي ينظر إلى الأمور كلها من منظور شخصه فقط، أما الشخص المتحضر الراقي هو الذي ينظر إلى ذاته وإلى مجتمعه نظرة متوازية، فيعطي لذاته حقها ويعطي لمجتمعه حقه، فإذا ارتقى مجتمعه وجد خيره في خير مجتمعه، بدافع من مسؤوليته الاجتماعية فهو يشعر أن خير مجتمعه وخير أمته في خيره، وهذا الشعور لم يخلق معه عند خروجه إلى هذه الحياة، بل هو شعور مكتسب، أي أن المجتمع هو الذي يربي عنده الشعور بالمسؤولية الاجتماعية ، ويتعزز هذا الشعور من خلال التربية في الأسرة وفي المدرسة وفي المجتمع وفي الحياة العامة. والشعور بالواجبات أو المسؤوليات الاجتماعية عنصر هام وأساسي من عناصر المواطنة الصالحة، فإذا ما تعزز هذا الشعور في أفراد المجتمع ، وتطبع به أفراده ، فإنهم سيبذلون قصارى جهودهم لخدمة الوطن، والحفاظ على وحدته وسلامة أراضيه واستقلاله. أما إذا ضعف هذا الشعور في أفراد المجتمع قويت روح الأثرة فيهم، وتغلبت الأنانية على نفوسهم، وصار الواحد منهم لا يفكر إلا في شخصه ولا ينظر إلا لمصلحته. ومما يؤسف له أن كثيراً من أفراد مجتمعنا اليمني في الوقت الراهن ينقصهم روح الشعور بالمسؤولية الاجتماعية ، وبالتالي ضعفت لديهم قوة الانتماء للوطن، فصار كل واحد يسعى إلى تحقيق ذاته، ويبذل ما في وسعه من جهد للحفاظ على مصالحه ولو كان في ذلك إضرار بالوطن. وربما يرجع ذلك إلى أن بعضاً منا لم يتعلم حتى الآن عمل الجماعات، ولم يترب تربية اجتماعية ، ولم يغرس فيه روح الانتماء للوطن، فهو لم يتعود على توزيع الواجبات في الجماعة المدرسية، ولم يتمرس على عملية تنظيم الأعمال، ولم يتعود على تحمل المسؤولية ، في نطاق الجماعة، والتي بها يعرف كل فرد ماله وما عليه ، وما الذي عليه أن يفعله وما الذي يجب أن يتركه. فلو نما هذا الشعور في أفراد مجتمعنا، ولو تربى ناشئتنا تربية اجتماعية، ولو غرس فيهم المربون حب الوطن، لوجدت لدينا آلاف الجماعات الناضجة المستعدة للخدمة العامة والمجردة من المصالح الذاتية. فلو نما هذا الشعور في أفراد مجتمعنا لرأيت ما يثلج الصدر ويريح الفؤاد، فانك سترى جماعة تساعد البائس الفقير، وجماعة ترعى الأطفال اليتامي والمشردين، وجماعة تؤاسي العجزة والمقعدين ، وجماعة تسعف المرضى والمنكوبين، وهكذا. ولو نما هذا الشعور لرأيت كل صاحب قدرة يزكي على قدرته بصرف جزء منها لصالح المجتمع، فصاحب القدرة العلمية يستطيع أن يسهم بقدرته بتثقيف الناس وزيادة وعيهم ، وينمى فيهم روح الانتماء للوطن، وليس كما يفعل بعض المتعلمين في بلادنا الذين يعملون على إحباط الناس وصرفهم عن بناء الوطن، وصاحب القدرة المالية بإمكانه أن يساعد بماله كل ذي حاجة ، ويدعم نشاطات الجمعيات الخيرية الفاعلة في المجتمع، وهكذا غير أن ذلك - للأسف - لم يحصل بسبب ضعف الشعور بالمسؤولية الاجتماعية وتخلي أفراد المجتمع عن واجباتهم الاجتماعية، لذلك لا غرابة أن تبرز في مجتمعنا اليمني - للأسف - ظاهرة الفوضى الاجتماعية ، بحيث صار كل واحد منا يتصرف على مزاجه وهواه دون مراعاة لأحاسيس ومشاعر الآخرين، فترى من يرفع الصوت في الأعراس ولو تضايق جيرانه، ولو كان عنده شعور بالمسؤولية الاجتماعية لما فعل ذلك ، لأنه سيراعي مشاعر الآخرين. ومن مظاهر الفوضى الاجتماعية ما نراه في بعض الشوارع فكل واحد يعتقد أن الشارع ملكه وحده ، فيفرش بضاعته على قارعة الطريق ولو كان في فعله هذا قد سد طريق المارة أو عطل حركة مرور السيارات ، وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد بل تراه يرمى بالأوراق والكراتين التي يستغني عنها في الطريق العام. ومن مظاهر الفوضى الاجتماعية في بلادنا ما نراه في بعض المواقف التي تتطلب الوقوف في طوابير لشراء تذاكر أو لسداد فواتير أو نحو ذلك ، فكل واحد يعتقد أنه وحده له الحق في أن يكون في مقدمة الطابور ولو جاء آخرهم، وليت الأمر يقف عند هذا الحد بل تجاوز ذلك إلى المساجد، حيث نرى بعض المصلين يحجزون أماكن لهم في الصف الأول ولو جاؤوا متأخرين. ولقد مرت الشعوب الأخرى بمثل حالنا التي نحن عليها الآن، ولكنها عالجتها بأمور كثيرة، عالجتها بنظام الخدمة العسكرية الإلزامية، فكل فرد لابد أن يمر بها، فترة زمنية ليتعود على النظام.كما عالجتها في الأسرة والمدرسة، ففي الأسرة ربوا الأطفال على أن يعيشوا في البيت عيشة اجتماعية، ليشعر كل واحد في الأسرة أن خيره من خير الأسرة، وفي المدرسة رسموا الخطط المتعددة لتعويد الأطفال أن يعملوا بشكل جماعات، أو جمعيات ، فهذه جماعة للعب، وهذه للأشغال، وتلك للكشافة، أو للفنون أو للعلوم ، وهكذا ، ونظموا الجماعات تنظيماً دقيقاً، بحيث تقوى الروح الجماعية وتضعف الروح الفردية ، وأعطوا لذلك اهتماماً خاصاً بحيث لم يتخرج الناشئة من البيت والمدرسة والمؤسسات العسكرية إلى الحياة، إلا وهم مشبعون بروح المسؤولية الاجتماعية، ولديهم الاستعداد للقيام بما تستوجبه تلك المسؤولية من التزامات وسلوكيات. فنجحت نقاباتهم وأنديتهم وأحزابهم وجمعياتهم، لأنهم نشؤوا عليها من صغرهم، وتربوا تربية اجتماعية من طفولتهم، فأصبحت ( نحن ) لديهم بجانب ( أنا ) كل منها تسند الأخرى، فمتى يا ترى تصبح ( نحن ) لدينا بجانب ( أنا ) كما هي الحال عند الشعوب التي سبقتنا.[c1]* خطيب جامع الهاشمي (الشيخ عثمان)[/c]