د. المقالح .. وحديث شيِّق عن الفنان أبوبكر سالم بلفقيه (1-2)
[c1]لطفي أمان .. أستاذه ومكتشف موهبته[/c] يستعد الفنان اليمني (أبوبكر سالم بلفقيه) لإصدار ديوان شعري يتألف من مجموعة الأغاني التي كتبها ولحنها وغناها. وقد قام صديقه الأديب الكبير (د. عبد العزيز المقالح) بكتابة مقدمة الديوان.. حيث تحدث في الجزء الأول من المقدمة عن (بلفقيه) الفنان.. بينما تناول في الجزء الثاني (البلفقيه الشاعر).. وتعتبر هذه المقدمة دراسة ممتعة وشيقة عن البلفقيه/ الفنان العظيم والشاعر المتمكن.(فنون) أستطاعت أن تحصل على الجزء الأول من المقدمة عن (البلفقيه الفنان) ننشرها هنا .. آملين أن نحصل من أستاذنا المقالح على الجزء الثاني من المقدمة عن (البلفقيه شاعراً). صوت قوي، ذكاء عميق، صعود خارق، ونجاح يتصاعد يوماً بعد يوم، ذلك هو أبوبكر سالم بلفقيه، الفنان اليمني الذي حملته أمواج الموسيقى ذات صباح سعيد من (تريم) في حضرموت إلى عدن، ومنها إلى بقية أجزاء الوطن العربي الكبير.نشأ _ كما تقول سيرته الذاتية _ في بيئة علمية محافظة وفي أسرة كريمة يهتم عدد من أفراده البارزين بعلوم الفقه والحديث واللغة وقرض الشعر، وكان عمّه عبد الرحمن بلفقيه شاعراً، كما كان أفراد آخرون من عائلته على صلةٍ وثيقة بالشعر، والشعر _ كما نعلم _ فن الفنون العربية، فهو الموسيقى، وهو المسرح وهو الحكاية وهو الصورة وهو بعد ذلك كله ديوان العرب والمنظم العاطفي للقيم الاجتماعية والإحساس بالجمال.وقد ألحقت الأسرة ابنها الذي سيغدو بعد ثلاثة عقود من الزمن فناناً ذائع الصيت بالكتاب شأن زملائه من أفراد العائلة والعائلات الأخرى التي تسكن مدينة (تريم) حيث للقرآن الكريم ولعلومه السائدة المكانة الأولى.وكما اكتشف الفنان العربي الكبير محمد عبد الوهاب نفسه أو بالأصح صوته في حلقات الذكر والتلاوة فقد اكتشف الفنان أبوبكر سالم بلفقيه نفسه أو صوته فوق حصير المدرسة وبدأ يغني لزملائه ثمّ لأبناء حارته، وفي الصبا المبكر ومنذ عام 1957م كانت هواية الموسيقى قد تمكنت من الاستيلاء على جانب من وقت الفنان المرتقب، وبقي الجانب الآخر يستولي عليه اهتمامه بالدراسة، فالفن هواية رفيعة لكنه _ وفي اليمن بخاصة _ لم يكن أبداً وسيلة لكسب العيش وبناء العائلة ومن حُسن حظ الفنان الكبير أنّه قد ولد في إحدى المحافظات الجنوبية الواقعة _ بسبب الاحتلال البغيض _ خارج (مملكة الظلام) حيث سيف التحريم مصلت على الرقاب، وهو تحريم شمل إلى جانب الفن، التفكير وكل أنواع الإبداع، لذلك لم يصطدم بعنف التحريم واستطاع بعد أن أنتقل إلى عدن في عام 1958م أن يقترب أكثر فأكثر من المُناخ الغُنائي السائد، وأن يزود نفسه بالمعارف الفنية المتاحة في تلك المدينة المفتوحة على التجارب المحلية والعربية من خلال الأفلام والإسطوانات.وقد تمكن في وقتٍ قصير من استيعاب الموروث واكتساب الخبرة المطلوبة والمتمثلة أساساً في إجادة العزف على العود وبدا أكثر تجاوباً مع التجارب المحلية، والحضرمية على وجه الخصوص.كان ما يزال طالباً في معهد المعلمين ويستعد ليصبح واحداً من أساتذة الجيل الجديد، وكان أستاذه في المعهد الشاعر الكبير لطفي جعفر أمان الذي اكتشف موهبته الحقيقية فأولاه اهتمامه وتشجيعه، وكان لطفي _ رحمه الله _ شاعراً كبيراً وعازفاً بارعاً ورساماً تشكيلياً وقد ضاعت مجموعة المواهب تلك في مُناخ الاحتلال والتشطير والتخلف، ولم يبقَ لنا منها سوى هذا الكنز الشعري الخالد.وفي عام 1962م، وهو عام الثورة اليمنية، العام الذي أضاءت فيه ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة بكل ما بشرت به من تغيير وما تمخضت عنه من تحرير الوطن الرازح تحت سيطرة الاحتلال والإمامة والتخلف.في هذا العام ودع الفنان أبوبكر سالم بلفقيه معهد المعلمين وحياة التدريس، واتجه بكل طاقاته نحو الموسيقى والغُناء، ولم يكن اتجاهه إلى الفن خروجاً على تقاليد الأسرة، فالأسر اليمنية العريقة لا تقاوم الفنون بل تشجعها، وفي مدينة (كوكبان) _ بالقرب من صنعاء _ وهي موطن عدد من الأسر اليمنية العريقة النسب كان الغُناء والعزف على العود من شروط تكوين الشخصية واكتمالها وبالرغم من التحريم الذي فرضه نظام (يحيى حميد الدين 1904 _ 1948م) فإنّ شرارة الفن ظلت متقدة في تلك المدينة تقاوم ليل الحرمان والطغيان إلى أنّ أشرقت شمس الثورة المجيدة.وهنا نجد الإشارة إلى أنّه لا يمكن عزل التطور الذي أدركته الأغنية اليمنية في الربع الأخير من هذا القرن عن التحولات التي حدثت بفضل الثورة اليمنية، فقد استطاعت هذه الثورة المباركة التي نازلت أعتى نظام رجعي فيما كان يسمى بالشمال، وأخطر احتلال أجنبي فيما كان يسمى الجنوب _ استطاعت أن تنقل الواقع اليمني على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي من حالة العدم المطلق إلى بداية النهوض، وفتحت الأبواب للنور الجديد، وكانت بكل المعايير _ نقلة تاريخية انعكس تأثيرها على الفنون والأداب التي عانت _ وفيما كان يسمى بالشمال بخاصة _ قدراً مذهلاً من الإرهاب تحجرت معه المشاعر وتكلست العواطف، وتحنطت الأحاسيس، ودخلت اليمن معه إلى ما يمكن تسميته بعصر الرماد، عصر انشقاق الروح عن الجسد، وعصر انشقاق الوطن الواحد، بل الإقليم الواحد إلى مجموعة من الأقاليم والسلطنات والمشيخات فقد وصلت اليمن قبل ثورتي سبتمبر وأكتوبر إلى أكثر من عشرين دولة أو دويلة، وكما كانت الثورة قوة شعبية متمردة تكوّنت في الخفاء وخرجت قوية هادرة تعيد إلى الروح اليماني حريته وكرامته وتصنع حداً لعصر الإرهاب الفكري والفني كذلك هوالفن ترعرع في السر وتزامن ظهوره مع ظهور الثورة حتى ليصعب على المؤرخ الفني أن يفصل بين تاريخ الفن وتاريخ الثورة التي أدت إلى نشوء حالة من الإحساس بأهمية الفنون وفي مقدمتها الموسيقى، هذا الفن الذي ترتفع بارتفاعه البشرية، وينحدر بانحدارها، الذي يترجم الوجدان القومي للشعوب كما لا يستطيع أي فن آخر ولا حتى الشعر.في منتصف الخمسينيات من هذا القرن كان الشعب المشطور (اليمن) قد نسي دوره التاريخي، ولم يُعد يتذكر أو يعي انتماءه إلى أمة عريقة ذات تراث حافل بالآداب والفنون، ولم يبقَ له من الأغاني سوى تلك الألحان الشجية الخافتة التي ترددها النساء في الأرياف وحول المطاحن وتلك التي تنتزع من النفس في لحظات العمل الشاق أقصى معاني التعبير عن اليأس والإحباط والشعور بالتعاسة.لقد سجّل التاريخ في صفحاته المدفونة أسماء كبار الفنانين والمبدعين الذين عرفتهم اليمن قبل أن يبتلي أهلها بالصراعات السياسية والتعصب الديني والمذهبي وبعد أن حل التناحر والخصومات الطائفية محل الاهتمام بالمعرفة التي أصبحت جزءاً من القيم الروحية بعد شروق الثقافة العربية الإسلامية التي غيّرت تضاريس الخارطة العقلية وحملت الإنسان العربي من ربوع الجزيرة إلى رياض الشام والعراق ومنها إلى دلتا مصر وبساتين الأندلس وبحيرات أوروبا.كان أحمد قاسم ومحمد مرشد ناجي وإسكندر ثابت وقاسم الأخفش وعلي الآنسي وأحمد السنيدار وفنانون آخرون يمهدون للثورة الفنية التي رافقت الثورة الوطنية.وكان أبوبكر سالم من شباب هذه الثورة الموسيقية بعد أن قطع حيرته التي جعلته يتردد بين التدريس والفن، وقد اختار طريقاً مغايراً لهؤلاء جميعاً وكانت بداياته مع الشاعر الكبير لطفي جعفر أمان ومع شعر هذا الشاعر الذي كان أستاذه الأول في طرق التدريس وفي كتابة الشعر، ثمّ في التلحين.وقد قام بغُناء وتلحين خمس قصائد من إبداع الشاعر الراحل وهي "زمان كانت لنا أيام" "وصفوا لي الحب" "سمعت الشوق" "خلي لي حالي" "أعيش لك" وبالرغم من أنّ اليمن يمتلك ثروة هائلة تتعدى الحدود من كلمات الأغاني والقصائد، قد استعار الفنان في بداياته المبكرة قصيدة ذائعة الصيت للشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، فكانت هذه القصيدة بلحنها وأدائها بمثابة طائر الرخ الذي طار بالفنان أميالاً إلى فضاء الشهرة، فقد ترددت من أكثر من إذاعة عربية وأجنبية، وكانت صباحاً جديداً للفنان الجديد الذي يحلم بتجاوز حدود اليمن والجزيرة ويتملكه شعور طاغٍ بضرورة القفز خارج الوطن الذي يضيق كلما اتسعت أحلام أبنائه.لقد أهل على اليمن صباح جديد، وأهلت مع هذا الصباح دورة جديدة للحياة وللسعي إلى العدالة والتوق إلى الكرامة الإنسانية، وأهل مع هذا التغيير صوت جديدٍ لفنانٍ لن يلبث أن يحلق في أوسع مساحة من الفضاء العربي وأن يترك تأثيره العميق على الملايين من عشاق الفن الذين يعيشون فوق هذه الأرض الممتدة من المحيط إلى الخليج.وقد بقى الفنانون في اليمن _ بعد أن تأكدت شرعية الفن بالثورة _ باستثناءات محددة في طليعتها أحمد قاسم ومحمد مرشد ناجي، بقى الجميع مشغولين بإحياء الموروث الشعبي من الأغاني أو بالأصح بتكراره والمحافظة عليه. وكان أبوبكر سالم بلفقيه مشغولاً مثلهم بقضية المحافظة على الموروث الغُنائي لكنه بالإضافة إلى ذلك قد شغل نفسه بما هو أهم، بالبحث عن مناهل جديدة تضيف إلى هذا الموروث، وتبعث فيه الحياة لاسيما وقد ظل مشلولاً عشرات السنين يتداوله عشاقه في عالم مغلقٍ، أنّه يحلم بأغنية تمتلئ بأنفاس جديدة لا تكون لليمنيين وحدهم يتعلقون بها ويطربون لإيقاعاتها، أنّه يريدها أغنية عربية يسمعها المواطن العربي في "صلالة" من عُمان ويشاركه الإعجاب بها والإنفعال بسحرها شقيقه في "الربا" على الأطلسي حيث تقف آخر أمواج الموسيقى العربية، مع احتفاظ هذه الأغنية بالخصوصية اليمنية المتميزة ودونما محاولة لكسر قانون التنوع في لغة الفن العربي الأصيل.وكان الفنانون اليمنيون _ حتى بعد أن خرجوا بأغانيهم إلى الهواء الطلق _ يرهبون الخروج من حدود بلادهم الصغيرة ويكرهون النهوض من محيطهم المحلي الضيق والقفز إلى الوطن العربي بمظلات الألحان المنسوجة من أشواق وتأوهات إنسان اليمن، ومن اهتزاز أوراق البن ونسائم المدرجات النائمة في أحضان الجبال، إلى أنّ جاء أبوبكر سالم بلفقيه وتوافرت لديه رغبة الخروج مقرونة بالاستعداد لمواجهة أقسى الصعوبات والمعقوات وقد حاول من البداية أن يبدأ رحلته الفنية إلى الجزيرة والخليج ومنها إلى بقية أقطار الوطن العربي، ويمكن القول إنّه نجح فيما خطط له، وأنّه أصبح واحداً من الفنانين المسموعين عربياً مع بقائه فناناً يمنياً تحس وأنت تسمع أغانيه أنّك تجوب سواحل عدن والمكلا، وتسرح في وديان تهامة أو تتسلق جبال سمارة مفتوناً بخضرتها وبتعرجات دروبها الصخرية، أو كأنّك في صنعاء بأسواقها وحاراتها وأشجان أهلها.