جيفري روبين * بانتصاره الباهر في انتخابات هذا الشهر، يكون هيوغو شافيز قد حافظ على دوره كمرمى لمخاوف الولايات المتحدة إزاء صعود "اليسار" في أميركا اللاتينية. فإذا كان الرئيس بوش قد أثنى على رئيسي البرازيل وتشيلي اليساريين لتبنيهما اقتصاد السوق والحكم باعتدال، فإن مسؤولي الإدارة الحالية وأعضاء الكونغرس ما انفكوا ينددون بشافيز -ومؤخراً بالرئيس البوليفي إيفو موراليس- بسبب انتقاداتهما المفرطة للولايات المتحدة وتسخير النفط والغاز لأغراض سياسية. ومع انتخاب كل رئيس "يساري" جديد في أميركا اللاتينية، لا يتوانى المعلقون الأميركيون عن التمييز بين زعماء يساريين "جيدين" وآخرين "سيئين". والواقع أن هذا الموقف الأميركي يفتقر إلى بعد النظر، ذلك أن صعود "اليسار" من جديد في أميركا اللاتينية ليس سوى جزء من مسلسل مستمر بدأ مع الثورة المكسيكية عام 1910 وظهور الأحزاب "اليسارية" في العشرينيات والثلاثينيات، من الإصلاح الديمقراطي، وتوسيع الأسواق، وازدياد مشاركة الطبقة الوسطى في السياسة. ومما يذكر هنا أن "يساريي" أميركا اللاتينية لم يدافعوا دائماً عن هذه الأهداف، التي تبنتها أحزاب أخرى أيضاً؛ إلا أنه بدون وجود "اليسار" وضغوطه، ما كان لهذه الإصلاحات التي تدعم الديمقراطية واقتصاد السوق أن تحدث. ولذلك، فبدلاً من إبداء القلق إزاء قيادات وسياسات معينة، ينبغي على "الديمقراطيين" و"الجمهوريين" المعتدلين والزعماء التجاريين الأميركيين الإقرار بأن المزيد من الإصلاح التدريجي في أميركا اللاتينية يمثل السبيل الأفضل نحو مجتمعات مستقرة وجو استثماري جيد. وبالتالي، فيتعين على الولايات المتحدة أن تشجع الإصلاحات التي تقوم على إعادة توزيع الأراضي، وجباية الضرائب على نحو تدريجي، واتخاذ القرارات بشكل ديمقراطي على جميع المستويات. ذلك أن أميركا اللاتينية لن تستطيع تلافي الانفجار الاجتماعي وتشجيع الإصلاح إلا عبر توفير محفزات للفقراء وأفراد الطبقات الوسطى من أجل حثهم على الانتقال من الاحتجاج في الشارع إلى المشاركة في المؤسسات السياسية. لقد قام "شافيز" بتحسين الظروف المادية للملايين من سكان الأحياء الفقيرة، غير أن العنف في شوارع المناطق الحضرية والاستقطاب الطبقي ارتفع ارتفاعاً صاروخياً. وإضافة إلى ذلك، مارس كل من "شافيز" وخصومُه السلطة بطرق غير ديمقراطية كالتلاعب بوسائل الإعلام وتهميش المؤسسات العمومية والخاصة. غير أن ما يبعث على السخرية أنه كان من نتائج ذلك أن تم وضع الظلم الاجتماعي والاقتصادي تحت الضوء لأول مرة منذ عقود. من أجل خلق المزيد من الإصلاحات الاقتصادية في فنزويلا وأميركا اللاتينية، على القطاع الخاص أن يقر بالحاجة إلى الإصلاح ويشارك في المفاوضات السياسية التي تؤدي إليه. وفي هذا السياق، تستطيع الحكومة الأميركية والزعماء التجاريون تسهيل هذا الانفتاح عبر تأييدهم للمبادرات التي تحسن الحياة اليومية للأشخاص بكيفية دائمة. تنعم اقتصاديات أميركا اللاتينية بصحة جيدة؛ حيث تخلو المنطقة نظرياً من الإرهاب والقتل العرقي والأصولية الدينية المناوئة للحداثة. كما يتطلع سكان أميركا إلى العيش الكريم في إطار دول ديمقراطية علمانية؛ ورغم بعض القلق إزاء قوة واشنطن وتدخلاتها، فإنهم يرغبون في علاقات اقتصادية وثقافية مع الولايات المتحدة، إضافة إلى حرية التنقل بالنسبة للمهاجرين والزائرين. وبهذا المعنى، فإن "يساراً" مزدهرا في أميركا اللاتينية يمثل فرصة تاريخية؛ حيث يمكن للولايات المتحدة أن تحقق أهدافها المتمثلة في تجارة مستديمة وتقدم ديمقراطي وجو استثماري ملائم في أميركا اللاتينية من دون تدخل قوي ومتسلط. والحقيقة أن معظم "اليسار" في أميركا اللاتينية يؤيد هذه الأهداف. قد يختار سكان أميركا اللاتينية في المستقبل القريب تغيير القوانين الاقتصادية أو وضع حدود للملكية الخاصة عبر الوسائل الديمقراطية من أجل توفير رواتب منصفة للعمال والطعام والتعليم للأطفال. وسيكون من الحكمة أن تدعم الولايات المتحدة هذه الجهود؛ حيث يستطيع الساسة والزعماء التجاريون الأميركيون أن يساهموا في جعل الديمقراطية والأسواق تعود بالنفع على الأشخاص العاديين عبر الدفاع مثلاً عن بنود تراعي مصالح سكان أميركا اللاتينية في مفاوضات التجارة الحرة ومراجعة أولويات وقوانين المؤسسات المالية الدولية. فعلى سبيل المثال، إذا سمح "صندوق النقد الدولي" بأن تذهب الثمار الاقتصادية في البرازيل إلى التعليم والبنى التحتية بدلاً من تسديد الديون، فيمكن للبرازيل في تلك الحالة أن تصبح أكثر تعلماً وتحظى بالعدالة الاجتماعية. وبدون فرصة من هذا القبيل، قد يستطيع رئيس البرازيل اليساري الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي، إلا أنه لن يكون قادراً على تحسين ظروف عيش مواطنيه. ونتيجة لذلك، فقد يقرر المزيد من البرازيليين الفقراء عرقلة الطرق السيارة واحتلال وسط المدن تعبيراً منهم عن الاحتجاج على غرار ما قام به النشطاء والهنود الفقراء في ولاية أوكساكا المكسيكية. وقد ينظر المزيد من البرازيليين إلى أساليب شافيز الصدامية على أنها السبيل الوحيد لإصلاح اجتماعي-اقتصادي قابل للنجاح. وبناء على ما سلف، ففي الوقت الذي تصارع فيه الولايات المتحدة من أجل التعاطي مع إخفاقاتها في العراق، يمكن القول إن أمامها فرصة تاريخية في منطقتها لإظهار أن الديمقراطية تستطيع تحسين حياة الأشخاص. إن أميركا اللاتينية تقوم اليوم بخطوات مهمة -وإن كانت غير منتظمة- نحو الإصلاح التدريجي. وعليه، فبدلاً من انتقاد الشخصيات التي لا تنظر إليها واشنطن بعين الرضا، على الولايات المتحدة أن تدعم سعي سكان أميركا اللاتينية إلى تحقيق الرفاهية عبر صفقات سوسيو- اقتصادية، وهو ما من شأنه أن يحقق الكثير على صعيد تشجيع القيم الديمقراطية وتحقيق عالم سلمي حديث خلافاً لما استطاع أي تدخل عسكري أن يقوم به في الماضي. * أستاذ التاريخ بـ"معهد الثقافة والدين والشؤون الدولية" التابع لجامعة بوسطن
أخبار متعلقة