أقواس
يجرنا الحديث عن المسرح الى أمور كثيرة لا بد أن نتناولها باعتبار أن المسرح هو أبو الفنون كما هو شائع بين الناس، فقد تعلق الانسان بالمسرح منذ قديم الزمان لأنه لمس فيه جمالية الطرح، والنفس البشرية تميل بطبيعتها لكل جميل،فحيثما وجد الانسان وجد المسرح. وما مجريات الأمور في هذا الكون، منذ بدء الخليقة سوى شخوص تلعب بإتقان احداث مسرحية ازلية كبرى مستمرة منذ أن اثمت يدا “قابيل” وسولت له نفسه البشرية قتل أخيه “هابيل”. ولا يعد ما في المسرح منذ البعيد من تراجيديا وكوميديا ودراما سوى مرآة تعكس ما لدى أي مجتمع من حسنات وعيوب، ولا شك ان فلاسفة الاغريق والرومان وغيرهم كانوا أساتذة الانسانية في هذا المجال منذ هوميروس وأرسطو وصولاً الى بريخت فالشعر والمسرح وجهان لعملة واحدة، واتضح ذلك جلياً في العديد من الأعمال المسرحية الناجحة والخالدة كملحمة جلجامش، والالياذة، والأوديسا، مروراً بمسرحية “اوديب الملك” الشعرية الرائعة، وانتقالا الى مفازات شكسبير المسرحية هاملت وماكبث وغيرها، فالشعر نبض المسرح.للمسرح دوره الخطير في تطور الحياة عند الأمم، ومنه المسرح الخاص الذي يهتم بقضايا الانسان والحريات والعدالة، لذا فالمسرح تربية اخلاقية واجتماعية وأدبية وفنية وحضارية، وهو تاريخ البشرية بإيقاعها وفكرها، وهو سعادة المعرفة والتواصل بين الأمم على اختلاف انتماءاتها.سيصل بنا الحديث لمسرحنا العربي الذي شق طريقه لمضاهاة المسرح العالمي، فرواد مسرحنا العربي تركوا بصمتهم في أعمال مسرحية رائعة، ولنذكر على سبيل المثال مارون نقاش، وخليل قباني، والشاعر احمد شوقي.إن مسرحنا في حاجة الى تكاتف الأيدي للنهوض به ولإبقائه دائم المجد.وليظل وسيلة للارتقاء والانتماء عند البشر الذين يتأثرون بهذه القيم لتكون نوراً وانبعاثاً من جديد.ولكلِّ مكان خصوصيتُهُ. وربما صحَّ القولُ إنّ هنالك أمكنةً تحثُّ على كتابة الشعر أكثر من غيرها. ومن المنطقيِّ أنْ نربط خصوصية المكان بخصوصية التجربة لدى هذا الشاعر أو ذاك. وغالباً ما يكون المكانُ الجديدُ بالنسبة إلى الشاعر أكثرَ تأثيراً في لقائهما الأول، الذي قد يشكِّلُ حافزاً على الكتابة. وقد خبرْتُ ذلك أيضاً من خلال تجربتي الشخصية. وأكتفي هنا بذكر مكان واحد من الأمكنة التي حفّزتْني على الكتابة منذ سفري الأول إليها. ففي زيارتي الأولى إلى اليمن، قبل أكثر من خمسة عشر عاماً،وجدتُ نفسي ابتداءً من اليوم الثاني للزيارة في أعالي الجبال المترامية على الطريق من صنعاء إلى تَعِز. وإذْ بي أبدأ بقصيدة سمّيْتُها فيما بعد <> قصيدة إلى اليمن”. لا أدري لماذا وجدْتُني مسحوراً بِهوْل تلك الجبال وغرابتها، كما وجدتُني أنجذب إليها كانجذاب الولد إلى أهله. ربما لأنني كنتُ متهيّئاً لهذا اللقاء الأول بما اختزنتُهُ في نفسي من مشاعر وعواطف وتصوّرات. ولكنّ اليمن، التي زرْتُها بعد ذلك مرّاتٍ كثيرةً، ظلّتْ موضوعاً لكتاباتيَ الشعرية بما أمدّتْني بهِ من انفعالاتٍ ورؤىً وصداقات، فكان لي أنْ كتبتُ قصائدَ عِدّة عبّرتْ عن تطوّر العلاقة بيننا، بيني وبين المكان، من زيارة إلى أخرى.لقد حدثَ لي مثلُ ذلك، وبنسَبٍ متفاوتة، مع أمكنة عديدة، ما جعلني أختبرُ العلاقةَ القويةَ بين السفر والكتابة، وأرى أنّ هذه الأخيرة إذْ تحتضنُ لمكانَ إنما “تؤلّفُهُ” أو تُعيدُ ابتكارَهُ.يحضرُني هنا كلامٌ للشاعر والفيلسوف الألماني “غوته” يقولُ فيه إنّ أغنى الثقافات أو أعمقَها هي ثقافةُ السفَر. وغوته نفسُهُ يقول إنّ أجملَ ما في السفَر العودةُ إلى البيت. كأنه بذلك يختصرُ الكلام على العلاقة الخلاّقة بين الكتابة والمكان. فالسفَرُ في هذه العلاقة لا ينبغي أن يكون سياحةً سطحية، بل ينبغي أنْ يكون مصدراً للثقافة، أي قبْضاً على روح المكان، بما هو حيِّزٌ طبيعيٌّ من جهة، وبما هو فضاءٌ للأسئلة والتطلّعات والرؤى من جهة ثانية.المكانُ في الشعر يتحوّلُ من كونه معطىً طبيعياً ثابتاً إلى كونه معطىً فنياً، أو بالأحرى معطىً لغوياً قادراً على التجدُّد. وإذا كان الشاعرُ يتجدَّدُ بالسفر عبر الأمكنة كما قال شاعرُنا أبو تمّام (... فاغترِبْ تتجدَّدِ) فإنّ المكان يتجدَّدُ في الشعر، يسافرُ هو الآخَر، ينتقلُ من حالة إلى حالة ويتلوّنُ ويولَدُ ويتجلّى ويتشكَّلُ ويغترِبْ... ولكنه في رحلته هذه ينبغي أنْ يحتفظَ بجوهرِ كيانِه، بروحِه، أي بما يميِّزُ شخصيّته بين الأمكنة. وذلك كما يحدث للشاعر، الذي يرتحلُ ويتغيّرُ ويستكشفُ ويستقرئُ ويُجرِّبُ ويُغامرُ... باحثاً في كلِّ ذلك عن فرادته وصوْته الخاص.