عبدالله بن بجاد العتيبي "طز في مصر.. وأبو مصر.. واللي في مصر" لم يقل هذا الكلام شارون في إفاقة سريعة من غيبوبته، ولا نتانياهو لتبرير خسارته، لكن الذي قاله هو السيد مهدي عاكف المرشد العام لجماعة "الإخوان المسلمين" وفقا لحوار نشرته مجلة "روز اليوسف" ودارت على إثره معارك طاحنة في المجالين الإعلامي والسياسي.الكلمة قاسية بكل معاني الكلمة في حق شعب بجمال الشعب المصري، وهي جارحة للشعور الوطني والإنساني لديه، وأي سياسي يطمح للسلطة كما هو شأن المرشد- لا يمكن أن يرمي مثل هذا الحديث رمياً إلا إن كان وراء أكمته ما وراءها فهذا النوع من الحديث يجب أن تكون له خلفية فكرية راسخة لا تجعله لدى مطلقه بالسوء الذي هو عليه في الحقيقة.حاول عاكف جاهدا أن يتنصل من التصريح فشكك أولا في مصداقيته وأنه لم يجر حوارا مع مجلة "روز اليوسف"، وهذا خارج سياق الخلاف، فالجهة التي أجرت الحوار ليست هي مربط الفرس في هذه القضية، ثم حاول التشكيك في أنه قال هذا الكلام، ورفعت "روز اليوسف" التحدي وأبرزت الحديث بصوت عاكف نفسه في محطة تلفزيونية مصرية، ولجأ المرشد أخيرا إلى القول إن هذا الكلام "مفبرك" وأنه نشر على طريقة "ولا تقربوا الصلاة" أي أنه مبتور من سياقه، وهذا أيضا كلام غير مقنع ولست أدري ما هو السياق الذي يمكن للمرشد افتراضه ليقول فيه "طز في مصر..."، وحين بلغ التحدي بين الجهتين مداه وطالبت "روز اليوسف" المرشد أن يلجأ للقضاء إن كان يظن أنها قد افترت عليه ليدفع التهمة عن نفسه، صرح يحيى الجمل المستشار القانوني للإخوان بأن المرشد لن يقاضي المجلة، الدلائل تقول إن المرشد مذنب مع سبق الإصرار في هذه العبارة.من عادة التنظيرات العامة والتحليلات العلمية أن تقنع شريحة معينة من البشر القادرين على استيعاب مدلولاتها المنطقية ومحاكمة مصداقيتها، لكن الواقع والتطبيق والمثال غالبا ما تكون الشريحة التي تقتنع بها أكبر لأن مساحة الاستيعاب تتسع ودلالتها على المعنى أسهل وأيسر، وحين كنت أتناول هذا المعنى في مقالات سابقة كان البعض يعاتبني لمبالغتي وها هو الشاهد يأتي كفلق الصبح، وليس شاهدا من أهلها فقط بل هو رأس الأهل وصاحب الأمر فيهم.إن المنظومات الأيديولوجية ومنها -جماعة الإخوان المسلمين- لا تعترف غالبا بحدود الجغرافيا ولا حدود الزمن، فهي مرتحلة في الزمان والمكان، عمودها الفقري هو الفكرة الجامعة والعقيدة الراسخة بغض النظر عن أية عوامل مؤثرة أخرى.مفهوم الوطنية لدى "الإخوان المسلمين" مفهوم عائم وملتبس وغير ذي معنى أحيانا، وحديث المرشد العام لـ"الإخوان المسلمين" المذكور في استهلال هذا المقال يأتي متسقا مع موقف "الإخوان" التاريخي من مفهوم الوطنية، فحسن البنا حين تحدث عن الوطنية في بعض رسائله كان حديثه أدبياً يحاول التعقّل ومحاباة الموجة الوطنية التي كانت قوية في تلك الفترة لكنه فيما بعد اعتبر الوطنية هي الرابط العقدي والروحي لا الرابط الجغرافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يمثل المفهوم الحديث للوطنية. بل إن سيّد قطب يقول بكلام لا تلجلج فيه -كما هي عادته- "والبشرية إما أن تعيش «كما يريدها الإسلام» أناسيّ تتجمع على زاد الروح وسمة القلب وعلامة الشعور، وإما أن تعيش قطعانا خلف سياج الحدود الأرضية، أو حدود الجنس واللون وكلها حدود مما يقام للماشية في المرعى كي لا يختلط قطيع بقطيع" وله مواضع أخرى أصرح في الانقضاض على مفهوم الوطنية كما لغيره من رموز "الإخوان".في هذا السياق الموجز يتضح أن المرشد يسير في سياق تاريخي واضح لدى جماعة "الإخوان المسلمين"، مضمونه الذي صرّح به المرشد الحالي وكنىَّ عنه السابقون شيئاً ما، أن الولاء للجماعة فقط، وأن الوطن والمواطنين وكل المخالفين ليس لهم مكان في أجندة الجماعة إلا بهدف إخضاعهم لحكم الجماعة وقسرهم على اختياراتها وإجبارهم على تشرُّب أفكارها.إن المشكلة لا تقتصر على تصريح لشخص واحد وإن كان المرشد العام للجماعة، ولكنها تمتد لتشمل كل الخاضعين لإمرته والمقسمين بالأيمان المغلّظة على طاعته في المنشط والمكرَه في السرّاء والضراء وهؤلاء منتشرون في أنحاء العالم الإسلامي ودوله، هم مواطنون في تلك الدول لكن ولاءهم المطلق وطاعتهم العمياء هي للمرشد العام في مصر الذي يقول عن وطنه "طز في مصر" فما ترى أتباعه يقولون عن أوطانهم!.أعضاء تنظيم "الإخوان المسلمين" يبايعون المرشد العام بالبيعة التالية، يقولون: "أبايعك بعهد الله وميثاقه على أن أكون جندياً مخلصاً في جماعة الإخوان المسلمين، وعلى أن أسمع وأطيع في العسر واليسر والمنشط والمكره إلا في معصية الله، وعلى أثرة عليّ ، وعلى ألا أنازع الأمر أهله، وعلى أن أبذل جهدي ومالي ودمي في سبيل الله ما استطعت إلى ذلك سبيلا، والله على ما أقول وكيل". وثمة نصوص أخرى مشابهة لهذه الصيغة وتصب جميعها في نفس الخانة، خانة الطاعة العمياء للمرشد العام، ويؤكد محمد أحمد الراشد مشروعية هذه البيعة ووجوب الطاعة فيها بقوله في كتابه فضائح الفتن: "إن البيعة لأمراء الدعوة قد انعقدت بعقد رضائي تام، وألزم الدعاة أنفسهم بهذه الطاعة اختياراً، لما قام في قلوبهم من معني لزومها لإيجاد حقيقة العمل الجماعي الكفيل بوضع الدعوة في موضع المكافأة لخصوم الإسلام في ساحة التنافس، ولم يقل أحد من الدعاة بلزوم طاعة عامة المسلمين لأمراء الدعوة، وإنما مضى مذهبهم بوجوبها على مَن بايع عن قناعة واختار هدر حقوقه في الاجتهاد والتصرف إذا خالفتهما توجهات وأوامر أمراء الدعوة".كما يعيد القول تأكيداً لهذه المسألة جاسم المهلهل وهو من شيوخ جماعة "الإخوان" في الكويت في كتابه (للدعاة فقط ) ص 96 إذ يقول: "بل دعوة الإخوان ترفض أن يكون في صفوفها أي شخص ينفر من التقيد بخططهم ونظامهم ولو كان أروع الدعاة فهماً للإسلام وعقيدته وأكثرهم قراءة للكتب ومن أشد المسلمين حماسة وأخشعهم في الصلاة".لقد بايع أعضاء التنظيم في العالم مثل هذه البيعة وحشد عليهم رموز التنظيم الأدلة الشرعية والعقلية التي تجبرهم بالالتزام بمواقف المرشد واجتهاداته، وهؤلاء سيقتدون بالمرشد ويتركون اجتهادهم لاجتهاده ورأيهم لرأيه وموقفهم لموقفه. كيف يمكننا اليوم أن نثق في هؤلاء وقدوتهم لا يقيم للوطنية وزناً ولا للمواطنين قيمة، لقد قيل قديما إن العصا من هذه العصية وإن قادم الأيام يخبئ لنا من المفاجآت ما لا نتصور إن ظللنا في غفلتنا وسذاجتنا ولم نسعَ لوضع كل الأوراق على الطاولة ونقاشها بجرأة وصراحة.سيظل مفهوم الوطن معتقلا لدى جماعات الإسلام السياسي وهامشياً ومضطهداً ومُجرَّماً، ولن أقول حتى تثبت براءته، بل أقول إن لسان حالهم يقول ولن تثبت براءته، لأن حكمهم صدر عليه مبكراً مرة بغمغمة في الحديث وتلميح دون تصريح، ومرة بتصريح وقح وحاد كما هو تصريح هذا المواطن المصري مهدي عاكف الذي يمثل للأسف قائداً لفئات من الناس لا تحسن تشغيل عقولها ولا تسأله عمّا يفعل وهم يُسألون من قبله وقبل جنوده ومن يمنّ عليهم بمنحهم حق السؤال! نقلا عن جريدة /"الاتحاد" الإماراتية
"شتيمة مصر"
أخبار متعلقة