رمضانيات
إن كتاب الله العظيم هو في حد ذاته مظهر من مظاهر الجمال الإلهي، جمال في اللفظ وفي المعنى وفي التصوير وفي التناسق الموسيقي الرائع ويكفي أن نتأمل الجمال في جملة واحدة من آيات الذكر الحكيم لندرك عمق الحس الجمالي وروعة الإبداع البياني الذي لا يضاهيه إبداع ولا يدانيه جمال، تأمل معي وصف الله عز وجل لذاته سبحانه: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم) النور/35حقيقة النور: الإشراق والضياء وهو في هذه الآية يشتمل على معان عديدة منها: الهداية، الكشف، فالنور هو الظاهر الذي به كل ظهور، واسم الله جل وعلا (النور) دال على التنزه عن العدم، وعلى إخراج الأشياء كلها من ظلمة العدم إلى ظهور الوجود، وهو اسم يستلزم معنى الإظهار والتبيين في الخلق والإرشاد والتشريع والإلهام. ثم تزمل هذا التمثيل الرمزي البديع لنور الله جل وعلا: بالمصباح الموضوع في زجاجة شفافة، كأنها كوكب دري في الصفاء والإشراق … وهذا الكوكب يستمد نوره من (شجرة مباركة زيتونة) النور/35، لكن هذه الزيتونة ليست كما نعهد، بل هي زيتونة (لا شرقية ولا غربية)، تكاد تضيء وإن لم تمسها النار … ثم تأمل هذا الختام الرائع: (نور على نور) حيث بلغت هذه النورانية قمة الصفاء والإشراق.وتظاهرت على ذلك المشكاة والمصباح والزجاج الخالص والزيت الصافي … إنه نور مكرر مضاعف محفوف بكل أسباب قوة الإشعاع والانتشار في الجهة المضاءة به، وبكل أسباب اليقين والحفظ والتبصر والدوام.والقرآن يوجه النفس إلى جمال السماء، وإلى جمال الكون كله لأن إدراك جمال الوجود هو اقرب واصدق وسيلة لإدراك جمال خالق الوجود وهذا الإدراك هو الذي يرفع الإنسان إلى اعلي أفق يمكن ان يبلغه، لأنه حينئذ يصل إلى النقطة التي يتهيأ فيها للحياة الخالدة، في عالم طليق جميل، بريء من شوائب العالم الأرضي والحياة الأرضية … وأن اسعد لحظات القلب البشري هي اللحظات التي يتقبل فيها جمال الإبداع الإلهي في الكون، ذلك أنها هي اللحظات التي تهيئه وتمهد له ليتصل بالجمال الإلهي ذاته ويتملاه.وإذا كان الإسلام يحتفي بالجمال والزينة والإبداع البياني، فكيف يظن به أنه دين يعارض الفن والإبداع؟ان الدين والفن من مشكاة واحدة، لأن الدين يبحث عن الحق، والفن يبحث عن الجمال، والله عز وجل هو الحق، وهو جميل يحب الجمال، وليس ثمة خصومة ولا تعارض بين الإسلام والجمال أو الإبداع الفني، وإن هذه النظرة التي ترى تعارضا بين الإسلام والإبداع تعود إلى الجهل الفاحش والإعراض عما في كتاب الله المقروء «القرآن العظيم» وكتاب الله المنظور «الكون» من آيات الزينة والبهجة والجمال والروعة والتناسق البديع وإلى ضيق الأفق والقصور عن إدراك ما فطر الله الإنسان عليه من تعدد الجوانب، وعمق الإحساس والشعور، والنزعة الجمالية الكامنة في روح الإنسان.