ربما لم يحظ خطاب لرئيس دولة عظمى باهتمام، مثلما حظيت كلمة الرئيس الروسي أمام مؤتمر الأمن والتعاون الدولي في ميونخ الأسبوع الماضي . وإذا كانت واشنطن وحليفاتها عبرت عن الشعور " بالصدمة " من انتقادات فلاديمير بوتين للهيمنة الأميركية؛ فان الدوائر والأوساط العربية، تلقت بارتياح يصل الى حد الجذل، طروحات الرئيس الروسي على الرغم من أن موسكو ، سبق ونوهت في أكثر من مناسبة، وعلى لسان كبار المسؤولين بأن السياسات الأميركية على الأصعدة الإقليمية والدولية، باتت تهدد الأمن والسلام العالميين، وأن إمعان البيت الأبيض في العسكرتارية، يفضي الى كوارث في مختلف مناطق العالم . الملفت أن الأوساط العربية، تعاطت باهتمام مع خطاب بوتين في ميونيخ ، لأنه جاء عشية جولة عربية واسعة للزعيم الروسي، شملت ثلاث دول، تعد حليفة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ويذهب البعض الى الاعتقاد بان بوتين اختار منصة ميونخ لإطلاق رسائل واضحة الى الدول العربية المصنفة في خانة أصدقاء واشنطن، مذكرا بان في العالم قوة عظمى ما تزال تحتفظ بأنياب نووية ، قادرة على مواجهة التفرد الأميركي ، وعازمة بالفعل على بناء عالم متعدد الأقطاب. ولامس خطاب بوتين وتصريحاته في الدوحة والرياض وعمان مشاعر الحنين العربي الى الحقبة السوفيتية، عندما كانت موسكو تقول لا قوية لواشنطن، وتجبر صقور البنتاغون على الانكفاء الى جحورهم بإنذار شفوي أو خطي لا يزيد على بضعة سطور . ومع أن موسكو طلقت منذ ما يزيد على العقدين، نهج المواجهة مع الغرب، ودخلت في شراكة مع الولايات المتحدة، إلا أن العالم العربي، ظل يمني النفس بأوهام العودة الى الحرب الباردة، على أمل أن تصد نسائم الكرملين، الرياح المسمومة التي تنطلق من البيت الأبيض و10 داوننج ستريت . وليس إحباطا للمشاعر، نقول، إن قراءة، خطاب الرئيس بوتين في ميونخ، وتصريحاته في العواصم العربية التي شملتها جولته، ينبغي أن تؤخذ في سياقات خارج حلم العودة الى الحرب الباردة. فروسيا ليست الاتحاد السوفيتي، وعبارات بوتين لا تشبه تلويح خروتشوف بنعليه غاضبا في الأمم المتحدة عام 1962. وليس في نية الكرملين توجيه إنذار على غرار إنذار بولغانين الشهير عام 1956 الذي أوقف العدوان الثلاثي على مصر. في نفس الوقت فان طروحات بوتين، وفيها نقد مرير للنهج الأميركي، ليست جديدة كليا، الفارق أن الرئيس الروسي، كثف أمام المؤتمرين في ميونخ، قلق وغضب روسيا، واستطرادا القسم الأعظم من دول العالم، بازاء هياج الثور الأميركي الذي يحطم أواني الخزف في سوق العلاقات الدولية، والتي يريد لها بوتين أن تكون براقة على أساس العدل والتكافؤ والمنافع المتبادلة . وإذ يشعر العرب بالارتياح لخطاب بوتين، فأنهم بذلك يعبرون عن حاجة العالم، وخاصة دوله المستضعفة الى "معارضة رسمية" للولايات المتحدة، هذه المعارضة التي اختفت مع انفراط عقد الاتحاد السوفيتي. وفي حينها أطلق المفكر الأميركي، اسيوي الاصل ، نظريته الشهيرة ( نهاية التاريخ والإنسان الأخيرة) وعبر فيها عن القناعة بان سقوط الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفيتي، يكرس واقع أن الديمقراطية الليبرالية التي توصلت إليها المجتمعات الغربية هي نهاية نظم الحكم المثلى للإنسان .. كما أن الرأسمالية الليبرالية هي نهاية النظام الاقتصادي الامثل التي يمكن للإنسان أن يتوصل إليها .. وفي هذين النظامين ينتهي تاريخ الإنسان في الإدارة والنظم الاجتماعية . بيد أن فرانسيس فوكاياما، الذي كان يوصف بأنه احد ابرز منظري المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية، أصبح بعد أربع سنوات من العدوان على العراق، أبرز منتقد لسياسات بوش والزمرة العسكرية في البنتاغون، مشيرا الى أن الخطأ كان في الحرب ذاتها وإدارة هذه الحرب. على نفس المنوال تحدث الرئيس الروسي، غداة الحرب على العراق، ليعلن أخيرا أمام مؤتمر ميونخ أن الوضع في بلاد الرافدين "يثير قلقا بالغا ... إنه محزن ومأساوي بدون مبالغة، منذ فترة أعدم صدام حسين وأنا لا أريد التعليق على هذا الأمر تحديدا، ولكن ماذا كانت تهمته التنكيل بسكان قرية شيعية وإعدام حوالي 147 شخصاً، لقد قتل منذ بدء العمليات العسكرية أكثر من ثلاثة آلاف جندي أميركي أما عدد الضحايا بين المدنيين العراقيين فيقدر حسب مصادر مختلفة بمئات الآلاف فهل يمكن مقارنة الأمرين؟ بالطبع يجب التفكير في مخرج لهذه الأزمة ويبدو لي أنه بدون منح الشعب العراقي حق وإمكانية تقرير مصيره سيتعذر الوصول إلى تسوية" . بوتين الذي دق ناقوس الخطر من تمادي الولايات المتحدة في نهج الهيمنة ولي اذرع الشعوب وسرقة ثرواتها، لم يلجا الى قاموس الحرب الباردة. إنه باختصار أراد أن يقول لمضيفيه في الجزيرة العربية، إن الشراكة مع الغرب لا تعني الانقياد للإرادة الأميركية، وإن للتاريخ بداية وليست له نهاية على الطريقة الأميركية. الأمم تنمو وتورق وتذبل وقد تموت، لكن مرايا التاريخ ليست في أروقة البيت الأبيض. وإذا كان خطاب بوتين في ميونخ نزل بلسما على قلوب العرب فعليهم أن لا يستغرقوا في مغامرات الأفكار. ويتعين على الدول العربية التي فتح الرئيس الروسي جسور الشراكة معها، إطلاق مبادرات مقابلة من شانها إقامة نظام دولي عادل قائم على العدل والمساواة والمصالح المتبادلة، عالم خال من الخوف ومن الحروب التي يشنها من اعتقد بعض منظريهم بنهاية التاريخ ليفجع العالم بحاضر اسود، دموي عنوانه عدوانية بوش وإدارته سيئة الصيت . [c1] كاتب وصحافي عراقي مقيم في موسكو [/c]
ليس نهاية التاريخ
أخبار متعلقة