المعركة التي يخوضها الملك عبد الله الثاني ضد الجناح الأكثر تطرفاً وغلواً في الحركة الإسلامية الأردنية، لا تخصّه وحده، إنما تعنينا جميعاً. إنها معركة المستقبل ، معركة التنوير العربي الإسلامي، معركة الأجيال المقبلة بأسرها. وبناء على حسمها في هذا الاتجاه، أو ذاك، يتوقف مصير العرب. لكن المعركة تتجاوز الإطار الأردني، على الرغم من أهميته لكي تصل إلى الشارع اللبناني، فالسوري، فالسعودي، فالمصري، فالعراقي بطبيعة الحال، فالمغربي، حيث أكتب هذه الصفحات، فكل الشوارع العربية والإسلامية دون استثناء. وهي ليست معركة بين الإيمان والإلحاد، أو بين الإسلام والكفر، كما يشيعون، إنما بين تصوّرين متضادّين للإسلام، أنتج الظلامي منهما شخصا كالزرقاوي وعنه نتجت كل الجماهير الأمية التي تصفق له بدون وعي. وأما التصور الثاني للإسلام ، فهو ذلك الذي تلألأ إبّان العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، عندما كان العرب يشكلون المنارة الوحيدة للفكر في حوض البحر الأبيض المتوسط على الأقل، إنه التصور الذي بلورته ونادت به التيارات العقلانية في الإسلام، وبخاصة المعتزلة والفلاسفة والعلماء الكبار. ومن هنا صعوبة المعركة التي يخوضها الملك الأردني ونخوضها معه، شئنا أم أبينا، فنحن لا نواجه الزرقاوي وأشكاله وكل الكتّاب الصحافيين الذين يتعاطفون معه سراً أو علانية، إنما نواجه ثمانية قرون من ذلك الفكر المتراكم والتوقف عن الإبداع والعطاء الحضاري. إن موقف عبد الله الثاني من هذا التيار الظلامي يعرف حقيقة أن السلام قدر المنطقة في نهاية المطاف، مهما كان التطرف مشتعلاً في كلتا الجهتين، ومهما بلغت جرائم إسرائيل أو حماقات بعض الفصائل الفلسطينية المتهورة التي تغامر بحياة شعبها ودمه، عن طريق استفزازات مجانية، لكن كيف يمكنه أن يقنع الشارع الأردني بذلك؟، هذا هو السؤال العسير.. كيف يمكنه ان يُفهم هذا الشارع بأنه ليس في مصلحته السير وراء هؤلاء المتطرفين؟ كيف يمكنه ان يغلّب التصور العقلاني المستنير المتسامح للاسلام على التصور الظلامي، الزرقاوي، الرهيب؟ لذلك أقول بأن المعركة ليست معركته وحده وإنما معركتنا جميعاً. ولكي ننجح فيها سوف أقدم هنا بعض المقترحات العملية. ينبغي أولاً تغيير برامج التعليم الخاصة بمادة التربية الدينية، وكذلك برامج الفضائيات التلفزيونية والاذاعات والاعلام المكتوب.. ولكن من يستطيع ان يغير كل ذلك دفعة واحدة؟ من يستطيع ان يواجه التاريخ بكل ثقله وتراكماته وترسباته الطائفية والمذهبية على مدار القرون. ولا بأس بهذا الصدد في ان نترجم الى العربية الحديثة تلك النصوص الكبرى لفلاسفة العرب والمسلمين ككتاب ابن رشد مثلاً عن »فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال«. فهو يقدم للقارئ المسلم صورة عقلانية مستنيرة عن العلاقات التي ينبغي ان تكون بين الدين والفلسفة، أو بين النقل والعقل، وبين الايمان والعلم.. وهو تصور مضاد لكل تلك اليقينيات العمياء التي تسيطر على وعي النواب الاردنيين الذين ذهبوا للتعزية في واحد من اكبر المجرمين الانحطاطيين او الظلاميين في التاريخ المعاصر. ينبغي ان يعرف طلابنا ان هناك فهماً آخر للاسلام غير هذا الفهم الخاطئ والمبتسر الذي يقدمونه لهم في المدارس الابتدائية، والاعدادية، والثانوية، وحتى الجامعية. ينبغي ان يعلموا ان هناك تأويلاً آخر لرسالة القرآن والاسلام غير هذا التأويل التوتاليتاري الارهابي الذي يسيطر علينا منذ مئات السنين بحكم العطالة الذاتية والنوم على التاريخ (نومة أهل الكهف) ضمن هذا المنظور كنت قد قدمت، وعلى مدار ربع قرن، اكبر محاولة لنقد العقل الاصولي في الاسلام في العصر الحديث: وأقصد بها مؤلفات محمد اركون بالطبع. ولكن هذا العمل لا يكفي على الرغم من اهميته وانما ينبغي ان تنضاف اليه أعمال اخرى: اي ترجمة كل البحوث الريادية عن التراث الاسلامي في كل لغات العالم وبخاصة الانجليزية والالمانية والفرنسية. فهناك أبحاث مضيئة لكل مراحل تراثنا ولكنها نائمة في مكتبات الجامعات الكبرى والمعاهد العلمية المتخصصة ولا أحد يدري بها اللهم إلا بعض الاكاديميين. فأين هي مراكز البحوث العربية التي تنقل لنا هذه المؤلفات العلمية والأبحاث التاريخية الرصينة؟ نقول ذلك ونحن نعلم انها هي وحدها القادرة على مواجهة الكتب الصفراء التي تملأ الشوارع العربية والمكتبات والتي تحشو ذهن شبيبتنا حشواً بالتصورات الخاطئة الماضوية التي عفى عليها الزمن. انها تصورات استلابية تؤدي بهم الى صدام مروع مع العصر ومع كل أمم الأرض، وليس فقط مع اميركا او اوروبا. ينبغي العلم بأن الزرقاوي ليس خطيراً بحد ذاته وانما بحجم التعاطف الشعبي الذي يتشكل حوله في الساحة الاردنية او الساحة العربية ككل. أكتب هذا الكلام من المغرب وانا اعرف ماذا اقول. فهنا ايضاً تدور معركة كسر عظم بين الملك الشاب والتيار الاصولي المتزمت الذي لا يتوانى عن اظهار تعاطفه مع الزرقاوي. كان ايمانويل كانط كبير فلاسفة التنوير في اوروبا، يقول بما معناه: فكرة التقدم ليست هامة بحد ذاتها وانما بمدى الحماسة الشعبية لها وقل الأمر ذاته عن فكرة التنوير. والعقلانية، والنزعة الانسانية، ثم فكرة الحضارة ككل. فاذا ما تحمس الشعب للتقدم فإنه يصبح حقيقة واقعة او قل يصبح ممكن الوجود.. ولكن اذا ما تحمس لفكرة التخلف والتعصب والهمجية البربرية فإن السماء تنطبق على الأرض ويعم الظلام كل شيء. وللأسف فلا استطيع ان اقول ما قاله كانط في عصره عندما سألوه: هل الشعب الألماني مستنير؟ فأجاب: لا، ولكنه سائر نحو الاستنارة لا استطيع ان اقول ذلك عن الشارع العربي. وهذا اكبر دليل على مدى خطورة المهمة التي نواجهها نحن المثقفين العرب اليوم ومدى وعورتها وصعوبتها ان لم يكن استحالتها. اقول ذلك وأنا اتمنى ان اكون مخطئاً او متشائماً اكثر من اللازم. ينبغي ايضاً ان نُدخل مادة تاريخ الاديان المقارنة الى كل جامعاتنا العربية لكي يعرف القارئ ان هناك قواسم مشتركة تجمع بين كافة الاديان والمذاهب على الرغم من الاختلافات العقائدية او الطقوس الشعائرية التي تفرق بينها. وهذه هي افضل طريقة للخروج من التصور الاخلاقي الاستبدادي للدين والانفتاح على تصور آخر حر، متسامح لا نهائي. ------------- كاتب سوري
الملك المستنير والزرقاويون الظلاميون
أخبار متعلقة