قراءة مقارنة في معاهدات الحدود اليمنية - السعودية
[c1]* 70 عاماً من العلاقات المتميزة[/c]إعداد/ فراس اليافعي العَلاقات اليمنية - السعودية يفرض واقعها منطق الساسة وحقائق الجغرافيا وأهم ما يميز العَلاقات بين البلدين التواصل السياسي الإيجابي البناء المستمر الذي لعب دوراً كبيراً في تنمية مقومات الشراكة الاقتصادية بين البلدين لتمضيا قدماً في طريقهما للوصول إلى هدف الشراكة الإستراتيجية التي تجمع بين الدولتين حكومةً وشعباً ومسيرة العَلاقات اليمنية - السعودية نحو (70) عاماً من الإخاء والتواصل المستمر.. وهي عَلاقة تضرب في عمق الزمن وأصول الجغرافيا وجذور الثقافة والحضارة الأخوية الأصيلة .. لذلك فإنّ رسوخ ثوابت العَلاقات اليمنية - السعودية ووضوح منطلقاتها الأخوية لعبت دوراً كبيراً في تأطير قواعد السياسات الخارجية والداخلية لكلا الدولتين بوحدة المصير المشترك. ولا شك أنّ زيارة سمو ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز إلى بلادنا على رأس وفدٍ رفيع المستوى سينمي من متانة وقوة الاتصال الاقتصادي والتجاري بين الدولتين، ومن شأنه أيضاً الإسهام في تعزيز المصداقية السياسية المتبادلة بين البلدين. المرحلة الحالية من هذا التطور الملموس في العَلاقات بين البلدين تشهد أوج ازدحام العَلاقة بينهما منذ بدء هذه العَلاقة في شكلها الحديث قبل سبعين عاماً. ولعل اتفاقيات الحدود من الطائف ومروراً بمكة المكرمة وأخيراً معاهدة جدة التاريخية عززت متانة تلك العَلاقات التي تجمع البلدين والشعبين الشقيقين. تتوج معاهدة جدة الحدودية بين المملكة العربية السعودية واليمن (70) عاماً من العَلاقات الخاصة جداً بين بلدين تجمعهما من الأواصر والمصالح ما قد لا يتوافر في عَلاقات أي بلدين آخرين، في المنطقة. ولعل طول مسيرة التقنين الطويلة لهذه العَلاقة الخاصة، في شكل معاهدات واتفاقات ملزمة (معاهدة الطائف 1934م، مذكرة التفاهم بمكة المكرمة 1995م معاهدة جدة 2000م) إنما تعكس الحرص على تأكيد تميز العَلاقة الخاصة بين البلدين، أكثر مما قد يعني تفاعل أي شكل من أشكال الحساسية في عَلاقة الطرفين، بعضهما البعض. كذلك فإنّ هذا الحرص القديم على تطوير إطار قانوني ملزم للعَلاقات الخاصة بين البلدين يعكس - في الوقت نفسه - نضجاً سياسياً مبكراً لدى قيادة البلدين من أنّ خير ضمان لديمومة هذه العَلاقات التاريخية بين البلدين هو الالتزام بقيم الدولة القومية الحديثة في إطار حركة وقيم المجتمع الدولي المعاصر، وليس فقط الركون إلى ما قد يربطهما، بالفعل، من روابط وأواصر خاصة، مؤسسة على قيم تقليدية. ومن هنا كان هناك توجه موضوعي، منذ البداية، تدعمه إرادة سياسية حاسمة من عدم تجاهل متغير المصالح وقيمة الأمن، لكلا البلدين، بوصفهما دولتين مستقلتين تتحكم في سلوكهما وتشكل توجههما قيم الدولة القومية الحديثة.. وحركة وقيم المجتمع الدولي المعاصر. وهذا التواصل التدريجي في إرساء دعائم العَلاقة الخاصة، وإن وصل إلى ذروته في نصوص معاهدة جدة وملحقاتها، إلا أنّه يجد مرجعيته الأساسية في معاهدات سابقة، وخاصة معاهدة الطائف لسنة 1934م، بوصفها تتضمن القيم الأساسية لتميز العَلاقات بين البلدين.. كذلك شموليتها وعدم اقتصارها على قضية معيّنة (الحدود مثلاً)، كمعاهدة جدة. أو تضمينها لآليات وقيم تطور العَلاقة الخاصة بين البلدين (مذكرة تفاهم مكة المكرمة 1995م)، ومن هنا يُثار التساؤل لماذا تمّت الإشارة إلى معاهدة الطائف، في كل من معاهدة جدة ومذكرة التفاهم؟.. وكيف يمكن تصوّر شكل العَلاقة بين البلدين واستشرافها، في المرحلة القادمة؟.. [c1] مرجعية معاهدة الطائف[/c] المادة الأولى في معاهدة جدة تؤكد على مرجعية معاهدة الطائف، خصوصاً في الجزء المتعلق بملف قضية الحدود، الذي تصدّت له معاهدة جدة.. وأغلقته تماماً. فقد نصت المادة الأولى في المعاهدة على إلزامية وشرعية معاهدة الطائف.. كما أكدت على أهمية هذه المعاهدة ومرجعيتها، مذكرة التفاهم (مكة المكرمة 1995م)، التي بدورها كانت قد أكدت، في مادتها الأولى على تمسك الطرفين بشرعية وإلزامية معاهدة الطائف. وهذا التميز لمعاهدة الطائف جاء من كونها معاهدة شاملة تحوي نصوصها وتوحي مضامينها بالعَلاقة الخاصة بين البلدين.. وتعكس تنامي الإرادة المبكرة لدى قيادة البلدين في إرساء دعائم هذه العَلاقة بينهما على قيم عصرية وموضوعية تتلاقى ومتغيرات حركة السياسة الإقليمية والدولية. ومعاهدة جدة لم تخرج عن نطاق هذا التوجه الشامل لمعاهدة الطائف، فيما يخص القضية التي تصدت لها (إغلاق ملف الحدود بين البلدين، بصورة نهائية، وللأبد). فيما يخص ملف الحدود، نجد أنّ معاهدة جدة ما هي إلا استجابة لما جاء في ديباجة معاهدة الطائف من ضرورة العمل على تثبيت الحدود بين البلدين. وهي أيضاً (معاهدة جدة) تُعد تخريجاً عملياً وقانونياً لما نصّت عليه معاهدة الطائف في ديباجتها، من تعهد الفريقين بأن يحلا بروح الود والصداقة كل ما ينشب بينهما من خلافات ومنازعات. لذلك، جاءت معاهدة جدة كتفعيل لهذا التوجه المبكر لدى قيادة البلدين بأن يتم إغلاق ملف الحدود نهائياً بإتباع نهج الاتفاق الثنائي، دون مساعدة أو تدخل أية طرف خارجي ثالث.. وذلك انعكاساً كما جاء في نص المادة الأولى من معاهدة الطائف، لحسن نوايا الطرفين، تجاه بعضهما البعض.. ورغبتهما الصادقة في الوفاق والاتفاق سراً وعلناً. كما أظهرت معاهدة جدة تمسك البلدين بمبدأ عدم جواز اللجوء لغير النهج السلمي، في حل ما يعترض عَلاقتهما الخاصة من مشاكل وعقبات، الذي نصّت عليه المادة (8) من معاهدة الطائف. وهذا النهج الودي، الذي حضت عليه معاهدة الطائف، العمل مع قضايا العَلاقات بين البلدين، نجد له صدىً، بالنص عليه في معاهدة جدة، خاصة في جزء الحدود، الذي لم تشمله معاهدة الطائف.. وإن كان قد سبق الاهتمام به في مذكرة التفاهم، التي وُقعت بمكة المكرمة في فبراير 1995م، الفقرة (ب) من المادة (الثانية) من معاهدة جدة نصت على إتباع النهج الودي في ترسيم خط الحدود، الذي لم تشمله معاهدة الطائف، الممتد من جبل الثأر وحتى حدود البلدين مع سلطنة عُمان. ومعاهدة الطائف لا تقتصر أهميتها على تطوير نظام خاص للقيم الثنائية بين البلدين، بل إنّها توفر - في بعض موادها - آليات تفعيل خدمة قضايا العَلاقة بينهما، مع الأخذ في الاعتبار المتغيرات الموضوعية التي تقوم عليها تلك العَلاقات والوثيقة الصلة بالمصالح العليا لكل منهما، كدول كاملة السيادة. ولذلك نجد أنّ معاهدة جدة راعت النواحي الفنية.. خاصة تلك التي لها عَلاقة بتحرك قوات الجانبين على طول الحدود، والتي جاءت في معاهدة الطائف، في إطار التأكيد على مرجعية تلك المعاهدة العتيدة. لذلك نجد أنّ المادة الرابعة من معاهدة جدة تؤكد التزام الطرفين بما جاء في المادة الخامسة من معاهدة الطائف، فيما يخص تمركز قوات البلدين على جانبي الحدود، على بُعد خمسة كيلو مترات بعيداً من خط الحدود... وذلك فيما يخص الجزء من الحدود، الذي تحكمه معاهدة الطائف. إنّ مرجعية معاهدة الطائف تجد أساسها، إذن، في أنّها معاهدة شاملة تخص مسألة تنظيم وتقنين العَلاقة الخاصة بين البلدين.. وتعكس إرادة قيادتي البلدين في وضع آلية عملية وموضوعية في خدمة مصالح بلديهما وشعبيهما، تمشياً مع تطور حركة النظامين العربي والإسلامي، في إطار قيم النظام الدولي الحديث.. وحركة السياسة الدولية والإقليمية المعاصرة، لتفعيل أقصى مستوى ممكن للعَلاقة بين بلدين عصريين تربطهما روابط وأواصر تقليدية، تترسخ جذورها في حقائق التاريخ والجغرافيا.[c1]الجديد في معاهدة جدة[/c]تكمن أهمية معاهدة جدة السياسية في قيمتها القانونية والعملية، حيث أنّها أغلقت ملف الحدود، نهائياً وإلى الأبد، وإن تعاملت معه كل من معاهدة الطائف ومذكرة التفاهم - إلا أنّه ظل مفتوحاً لـ (66) عاماً، ومعاهدة جدة غطت طول خط الحدود بين البلدين، الذي شملته معاهدة الطائف والذين لم تشمله.. كما أنّ معاهدة جدة اهتمت بالجانب الإنساني في مشكلة الحدود، بإخضاع الاعتبارات الديموغرافية للاعتبارات الجغرافية والسيادية.. هذا بالإضافة إلى اهتمامها بالجانب الاقتصادي في قضية الحدود. [c1] الترسيخ الدقيق لكامل خط الحدود[/c] تكمن أهمية جدة في أنّها تصدت لقضية الحدود بين البلدين، البرية والبحرية والتي يبلغ طولها 2500 كيلو متر، وليس خط الحدود التقليدي القصير الذي حكمته معاهدة الطائف. فمعاهدة جدة تشمل خط الحدود الطويل من جبل ثأر وحتى نقطة التقاء حدود البلدين مع الحدود العُمانية، الذي كان خارج نطاق الجزء الذي سبق وتكفلت به معاهدة الطائف.. وجاءت أول إشارة رسمية له في مذكرة التفاهم (المادة 3). وهذا الجزء الأطول من الحدود، لم تكن تحكمه من قبل اتفاقية بين البلدين حول ترسيمه، وإن كان قد تمّ الاتفاق على آلية لذلك (مذكرة التفاهم مكة المكرمة 1995م). بالإضافة إلى أنّ معاهدة جدة حددت، بصورةٍ أكثر تفصيلاً، خط الحدود البحرية، في مذكرة التفاهم سنة 1995م، قارن المادة (4) من معاهدة الطائف مع المادة (2) من مذكرة التفاهم من معاهدة جدة. المعاهدة رسمت الحدود بين البلدين بدقة متناهية، من خلال تحديد مواقع 310 علامات حدودية على طول خط الحدود بين البلدين، الذي يتجاوز طوله 2500 كلم من نقطة التقاء حدود البلدين مع حدود سلطنة عُمان.. بتقاطع دائرة عرض 19 مع خط طول 52 شرقاً.. إلى تقاطع دائرة عرض 16 مع خط طول 42 (رصيف البحر تماماً رأس المعوج شامي لمنفذ رديف قراد)، في البحر الأحمر، غرباً. وترسيم الحدود بين البلدين بهذه الدقة المتناهية ما كان ليتم لولا الجهود المضنية، التي قامت بها اللجان الفنية العسكرية والمدنية المساحية المشتركة في البلدين، تطبيقاً للمادة الرابعة من اتفاقية التفاهم لسنة 1995م.. وتماشياً مع نص وروح المادة الرابعة من معاهدة الطائف، طوال السنوات الست الماضية. ويكفي لتقدير هذا الجهد مقارنة ما جاء في ملاحق الحدود الـ (310)، مع الترسيم البدائي الذي ورد في المادة الرابعة من معاهدة الطائف. وإن كان هذا الترسيم الحديث قد سبق، كما ذكرنا وأوصت به معاهدة الطائف.. ونص عليه صراحة في اتفاقية التفاهم. كما أنّ معاهدة جدة لم تكتف فقط بتحديد مواقع العلامات بدقة على خارطة الحدود المشتركة بين الدولتين، بل إنّها نصت على إيكال عملية تثبيت مواقع العلامات على الأرض، لشركة عالمية متخصصة.. وتصبح كل الخرائط التي ترسمها تلك الشركة وتحدد بها، بدقة، مواقع العلامات وأجسامها، بعد تشييدها، جزءاً لا يتجزأ من المعاهدة الفقرة (5) من المادة (4). [c1]البُعد الإنساني في معاهدة جدة[/c] معاهدة جدة لم تكتفِ بتحديد مواقع علامات الحدود، بدقة... ولكنها أيضاً راعت المتغير "الديموغرافي" (السكاني) عند عملية وضع تلك العلامات الحدودية (الساريات)، على الأرض. مع عدم الإخلال بالتوزيع السكاني على جانبي الحدود، الذي سبق وراعته معاهدة الطائف، في مادتها الرابعة عند تحديد مناطق القبائل القاطنة على جانبي الحدود وتبعيتها لأي من الدولتين، فإنّ معاهدة جدة كانت أكثر حرصاً على مراعاة الجانب السكاني، حتى أنّها قدمته على مواقع العلامات المتفق عليها، إذا ما حصل أنّ أياً من الإحداثيات على موقع أو مواقع قرية أو قرى أحد الطرفين، فإنّ المرجعية في إثبات تبعية هذه القرية أو القرى، لأي من الطرفين، تكون لانتمائها لأحدهما، عند وضع العلامات الحدودية (المادة (2) فقرة (أ) ). وبهذا يكون لاتفاقية جدة بعد إنساني، ذو طابع سياسي، يعتمد على خيارات السكان وانتماءاتهم، عند عملية ترسيم الحدود وتحديد مواقع علاماتها.. الأمر الذي تتجاهله كثير من اتفاقيات ترسيم الحدود.. ويشكل عقبة أمام تطوير علاقات أفضل بين الدول، حتى بعد تسوية مشاكل الحدود، فيما بينها. هذا بالإضافة إلى أنّ معاهدة جدة تأخذ بعين الاعتبار ليس خيارات السكان السياسية، فحسب... بل أيضاً سلوكيات السكان وتحركاتهم، التي لها عَلاقة بمصادر رزقهم.. وتغليب ذلك حتى على اعتبارات ممارسة السيادة، لكل من الجانبين، في إقليمه. المادة (1) في ملحق (4) بفقراتها الثلاث، حددت نطاقاً عرضه عشرين كيلومتراً على جانبي الجزء الثاني من الحدود، الذي يمتد من جبل الثأر وحتى الحدود العُمانية مع الدولتين، لممارسة الرعي للسكان هناك، دونما نظر لاعتبارات التنقل بين حدود البلدين. فالاهتمام هنا كان منصباً على مصلحة السكان ومعاشهم وطريقة معيشتهم، لا على الاعتبارات السياسية، التي عادة ما تصاحب امتداد خط الحدود، حتى إنّ اعتبارات السيادة تقلصت إلى مستوى التشاور في تحديد نقاط عبور الرعاة، لتنظيم وتسهيل تنقل الرعاة، داخل مجال العشرين كيلو متراً، على جانبي حدود البلدين. ولم تكتفِ معاهدة جدة بتقلص عملية ممارسة السياحة على تحركات السكان إلى أدنى مستوى ممكن، فحسب... بل أنّها تحرت بالنص في المعاهدة على استبعاد أي شكل من أشكال السيادة يمكن أن يعرقل حركة السكان عند ممارستهم لحرفة الرعي أو عند بحثهم عن مصادر المياه. المادة الثانية من ملحق رقم (4) من معاهدة جدة نصّت صراحةً في الفقرات (أ ، ب) على إعفاء الرعاة من الجانبين، عند تجوالهم وتواجدهم في حدود العشرين كيلو متراً من جانبي الحدود من الضرائب والرسوم على الأمتعة الشخصية والمواد الغذائية والسلع الاستهلاكية، كما يمنع تحصيل أو فرض أية رسوم على الحيوانات والبضائع المارة بتلك المنطقة، بغرض التجارة. وبقيت القيود على تحرك المواطنين في هذه المنطقة في حدها الأدنى، طالما أنّها لا تعبر إلى عمق أراضي الطرف الآخر، عندها تمارس سلطات السيادة بوضع الضوابط والقيود لعدد السيارات العابرة مع الرعاة إلى أراضيها من الجانب الآخر، بما في ذلك القيود التي قد تفرض على حمل السلاح، من رعايا الدولة الأخرى.. أو الإجراءات التي قد يتبعها أي طرف لحماية ثروته الحيوانية إذا ما انتشر وباء في الجانب الآخر من الحدود أو في منطقة العشرين كيلو متراً الفاصلة بين الحدود "المادة (4)". [c1]الاستغلال المشترك للثروات[/c] كان اهتمام معاهدة الطائف سيادياً وأمنياً، في الأساس، من حيث اهتمامها بتحديد مجال حركة سيادة وسلطات كل دول على الأرض والبشر، في جانبها من الحدود.. ومنع أية احتكاك بين الطرفين على جانبي الحدود من أن يتطور ليضر بمصالح الطرف الآخر السيادية والأمنية.. ولم تكن لتتطور، في ظل الظروف التي بررت عقد المعاهدة، في ذلك الوقت، بعد اهتمامات بالثروات الطبيعية، التي من المحتمل أن تكتشف في مناطق الحدود.. دعك من تقنين عملية الاستفادة منها. هذا الأمر تنبه له الجانبان عند صياغتهما لمعاهدة جدة. فقد نصّت المادة (6) من الملحق رقم (4) على أنّه في حالة اكتشاف ثروات طبيعية قابلة للاستخراج والاستثمار، على طول خط الحدود بين البلدين، فإنّ الطرفين المتعاقدين سوف يجريان المفاوضات اللازمة للاستغلال المشترك لتلك الثروات. وفي كل الأحوال فإنّ معاهدة جدة حرصت على تجنب أي عمل من شأنه أن يعكر صفو العَلاقات المستقبلية بين الجانبين. ولقد أظهرت معاهدة جدة حساسية الظهور الأمني على جانبي الحدود.. وما قد يشكله ذلك من فرصة لتفاعل احتكاكات أمنية قد تتطور إلى ما لا يتلاءم وطبيعة العَلاقات في المرحلة القادمة. وفي هذا الصدد ذكرت معاهدة جدة، في مادتها الرابعة، بالفقرة الخامسة من معاهدة الطائف، التي نصّت على ضرورة عدم التواجد لأية مواقع عسكرية على طول خط الحدود بين البلدين من جبل ثأر، شرقاً وحتى رأس المعوج، غرباً، في مساحة عمقها عشرة كيلومترات (خمسة كيلومترات على جانب كل طرف من الحدود).. ويتسع مجال هذا النطاق المنزوع السلاح إلى مسافة 40 كيلو متراً (عشرين كيلو متراً من جانب كل طرف من الحدود)، في الجزء الثاني من الحدود الممتد من جبل الثأر غرباً إلى نقطة التقاء حدود البلدين مع الحدود العُمانية، شرقاً. [c1] نهاية التاريخ..![/c] اتفاقية جدة لا تُعيد قطار العَلاقات بين المملكة واليمن إلى مساره الصحيح على قضبان حركة التاريخ، فحسب ... بل أنّها تسرع في مسيرة، في المرحلة القادمة، لتبلغ غايات وأهداف العَلاقات التاريخية المتميزة بين المملكة واليمن. لقد تباطأ قطار عَلاقات المملكة واليمن، طوال العقود السبعة الماضية، حتى أنّه في بعض مراحل سيره حاد عن طريقه الصحيح.. بل أنّ ضل، في ظل ظروف معينة، عن مسار حركة التاريخ. ولكن طوال هذا التاريخ الطويل من العَلاقات بين البلدين لم تخب جذوة الإرادة لدى قادة البلدين في ضرورة الإحساس بإستراتيجية العَلاقة الخاصة بين بلديهما. وهذا الإحساس قديم قدم أول معاهدة عقدت بين أطراف عربية، في تاريخ العرب المعاصر (معاهدة الطائف 1934م). ومعاهدة الطائف، بالرغم من مرور ما يقارب من سبعة عقود على توقيعها؛ إلا أنّ قيمها، في تأكيد هذه العَلاقة الخاصة بين الرياض وصنعاء، لا زالت تشكل المرجعية السياسية والقانونية لتنظيم هذه العَلاقة الخاصة بين البلدين الجارين. وتأتي معاهدة جدة لتغلق نهائياً، وللأبد، ملف الحدود بين البلدين، الذي كان وراء التوقيع على معاهدة الطائف.. وسبباً في إطالة فترات الجزر التي ألقت بظلالها على العَلاقات بين البلدين، طوال مسيرة تاريخ العَلاقات المعاصرة بينهما. وكان ملف الحدود هذا عائقاً أمام تفعيل القيم، التي وردت في معاهدة الطائف، في ظل ظروف معيّنة أما نتجت عن حركة النظام العربي وتداعيات حركة السياسة الإقليمية أو الدولية، أو بسبب أحداث تفاعلت في أي من البلدين. إلا أنّه، في كل الظروف، كان هناك إحساس بحركة التاريخ عند قيادة الدولتين.. وأنّه في يوم ما سوف تلتقي إرادتهما، مع حركة التاريخ. وكان ذلك في يوم توقيع معاهدة جدة يوم الاثنين : 12/3/1412هـ الموافق 14/6/2000م. وما رحلة السبعين عاماً، التي مرت بها العَلاقات بين البلدين منذ معاهدة الطائف 1934م، حتى معاهدة جدة 1995م، إلا محطات وقف عندها قطار العَلاقات الخاصة بين البلدين ليتزود، عند كل منها، بالوقود اللازم لمواصلة مسيره في طريق العَلاقات الأزلية بين البلدين. حيث التعاون المثمر والتكامل البناء، في سبيل تنمية البلدين العربيين الجارين.. والتقاء أعمــق بين شعبيهما، وعند تحقيــق ذلك، تبلغ حركة التاريخ غايتهــا.