مع الأحداث
محمد عاكف جمال الولايات المتحدة لها تاريخ طويل وتقاليد راسخة في فصل الدين عن السياسة على الرغم من وجود اتجاه لا يستهان بقوته يدعو إلى الخلط بين الاثنين. فخلال التاريخ الأميركي الحافل بالأحداث كانت الحركات ذات الطابع الاجتماعي التي طالما شهد المجتمع الأميركي مخاضاتها الطويلة وعاش أجواءها السلمية والعنيفة بين مؤيد أو مناهض أو محايد، ابتداء من المطالبة بتحريم الإجهاض ومروراً بالمطالبة بالحقوق المدنية ووصولاً إلى المطالبة بإقرار حق الزواج بين المثليين. كانت هذه الحركات غير بعيدة عن التأثر بمواقف الكنيسة التي أصبحت طرفاً فيها بهذا الشكل أو ذاك لدواع قيمية وأخلاقية لا تزال الكنيسة ترى نفسها مرجعية نهائية لا غنى عنها في شؤون كهذه على الرغم من أن القوانين والتشريعات المدنية التي تتعلق بحقوق وحريات الأفراد قد تجاوزت كثيراً في آفاقها ما تصر المؤسسة الدينية على إبقائه وتكريسه. وقد بقيت الحملات الانتخابية للرئاسة الأميركية بعيدة عن خلط الدين مع الشعارات الانتخابية لدى مرشحي الحزبين الرئيسيين. إلا أن عام 2004 شهد ولأول مرة حملة انتخابية تحدث فيها المرشحون بوضوح وصراحة عن معتقداتهم الدينية. وأصبحت الكنيسة في ظل الأجواء السياسية الجديدة التي حرصت إدارة الرئيس بوش على إبقاء أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 حية في الذاكرة الأميركية وكأنها حدثت يوم أمس، أصبحت الكنيسة أكثر من السابق نشاطاً في التحركات السياسية وأصبح الناخبون لا يصنفون فقط وفق ميولهم السياسية وإنما وفق عمق ارتباطاتهم الدينية التي يرى فيها البعض مؤشراً أقوى للتعرف على اتجاه الناخب في منح صوته الانتخابي من مؤشرات أخرى متعارف عليها مثل الجنس والعمر ومتوسط الدخل والمعتقد الديني. ولعل مما يدعم ذلك هو التقرير الذي نشره مركز أبحاث بيو Pew Research Centre، وهو مركز متخصص في استقراء توجهات الرأي العام في القضايا التي تتعلق بعلاقة الدين مع الحياة تأسس في الولايات المتحدة عام 2001، على موقعه في الإنترنت في الحادي والعشرين من أغسطس المنصرم. حيث تبين من استبيان شارك فيه ثلاثة آلاف شخص من البالغين، جمهوريون وديمقراطيون ومستقلون، بأن أغلبية ضئيلة ترى ضرورة ابتعاد المؤسسة الدينية عن الحياة السياسية: (51 %) من الجمهوريين و(52 %) من الديمقراطيين و(55 %) من المستقلين، في حين كانت هذه النسب (37 %) لدى الجمهوريين و(51 %) لدى الديمقراطيين و(45 %) لدى المستقلين عام 2004. وفي هذا السياق يتقارب موقف الجمهوريين والديمقراطيين في الرغبة في إبعاد الكنيسة عن الحياة السياسية. كما بدأ موقف الحزبين في التقارب في شأن آخر أيضاً، فمن المعروف لدى الرأي العام الأميركي أن الحزب الجمهوري أكثر صداقة مع الدين من الحزب الديمقراطي، إلا أن ما كشف عنه الاستبيان الذي أشرنا إليه هو أن الحزب الديمقراطي يسجل تقدماً في مجال تقربه إلى الدين، فقد ارتفعت نسبة من يرى من الديمقراطيين ضرورة إحياء الصداقة مع الدين من (26 %) عام 2006 إلى (38 %) عام 2008. ورغم هذا التقارب في الموقف من الكنيسة كمؤسسة ومن الدين كمعتقد لدى الحزبين، أوضح الاستبيان جانباً مهماً للتباين بينهما على مستوى القيادات فقد تبين زيادة نسبة من يعتقد بأن المحافظين (المتدينين) لديهم النفوذ الأقوى في الحزب الجمهوري حيث ارتفعت نسبة من يرى ذلك من (43 %) في أغسطس 2007 إلى (48 %) في أغسطس 2008. في حين ازدادت نسبة من يرون بأن الليبراليين (غير المتدينين) تزداد سيطرتهم على الحزب الديمقراطي من (37 %) إلى (43 %) لنفس الفترة الزمنية. وهذا في الحقيقة مؤشر على قوة الحزب الجمهوري الذي لا تشعر فيه قيادته بالغربة في أجوائه على العكس من قيادات الحزب الديمقراطي. ويبدو ان توظيف المعتقد الديني سياسياً يوفر أجواءً أفضل للقياديين في الحزب الجمهوري للإمساك بتلابيب الحزب والتأثير بفاعلية أقوى في الحياة السياسية طالما كان الرأي العام الذي تشغل المعتقدات الدينية حيزاً لا يستهان به من مخيلته يلعب دوراً كبيراً في صناعة القرارات السياسية الحاسمة ويعمل على إيصال هذا المرشح أو ذاك إلى سدة الحكم. ومع أن معظم الأميركيين (66%) يرفضون تبني الكنيسة لمرشح معين، وإن نسبة من أبدوا عدم ارتياحهم لسماع السياسيين يتحدثون عن معتقداتهم الدينية قد ارتفع من (40%) عام 2004 إلى (46%) في الاستبيان الأخير، ومعظم هذه الزيادة قد تأتت من معسكر الجمهوريين، إلا أن نسبة كبيرة من الأميركيين لا تعترض على ذلك، إذ أن (29%) منهم يرون بأن أحاديث السياسيين عن معتقداتهم الدينية هي أكثر مما يجب في حين يرى (36%) منهم بأنها أقل مما يجب ويرى (28%) منهم بأنها في محلها. الأرقام التي وردت في تقرير مركز بيو لا تشير في الواقع إلى أن الموقف من علاقة المعتقد الديني بالسياسة قد حسم مع أو ضد، وإنه قد يوظف أو قد لا يوظف في العمل السياسي، إلا أن هذه الأرقام من ناحية أخرى تشير إلى حقيقة هامة مفادها أن المعتقد الديني قد لا يلعب دوراً واضحاً في الحياة اليومية للفرد الأميركي إلا أن من الخطأ تجاهل أهميته وتأثيراته في المواقف الحاسمة ومنها الانتخابات الرئاسية. ولعل ما يثير الاهتمام في هذا السياق هو أن أحاديث الرئيس الأميركي جورج بوش عن معتقداته الدينية والإدعاء بأن بعض قراراته قد اتخذت بفعل إيحاء خفي وقيام مراكز بحث متخصصة في توفير البيانات حول دور الدين في الحياة العامة ومنها الحياة السياسية قد ازداد بشكل ملحوظ بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وليس قبل ذلك، وإن زخم ذلك لم يتراجع في الحملة الانتخابية التي نشهدها في الوقت الحاضر. وكان آخر ما بدر عن المتنافسين في هذا الصدد هو التصريح الملفت للنظر الذي أدلت به المرشحة الجمهورية لمنصب نائب الرئيس سارة بالين حين قالت بأن ذهاب القوات الأميركية إلى العراق كان بإرادة إلهية في تماه ما بعده تماه مع طروحات الرئيس بوش. لو اعتبرنا نتائج هذا الاستبيان مؤشراً على الواقع الفكري للمجتمع الأميركي لما كان لدينا سوى الاستنتاج بأن التيار المحافظ في السياسة الأميركية سيلقى ما يعززه إلى حين، في الوقت الذي تتراجع فيه أحلام الليبراليين في زيادة مساحة الحرية، وسوف يترك هذا التوجه بصمات لا يمكن تجاهل تأثيراتها على مجمل الأوضاع العالمية. [c1]* صحيفة(البيان) الإماراتية[/c]