نبض القلم
يروى أن علياً بن أبي رافع كان أمين مال بيت المسلمين على عهد الخليفة علي بن ابي طالب (رضي الله عنه) وكان في بيت المال عقد لؤلؤ كان قد أصابه من معركة فتح البصرة، فأرسلت إليه ابنة أمير المؤمنين،وقالت له:إنه قد بلغني أن في بيت مال أمير المؤمنين عقد لؤلؤ، وهو متناول يديك، وأنا أحب ان تعيرني إياه أتجمل به في يوم عيد الأضحى، فاستجاب ابن أبي رافع لطلبها وأعارها العقد بعد ان أخذ منها عهداً وضمانة بأن تعيده إليه بعد ثلاثة ايام.فأخذته ابنة أمير المؤمنين وتجملت به في يوم العيد فرآه أمير المؤمنين عليها فعرفه، فقال لها: من أين جاء إليك هذا العقد ياابنتي؟فقالت: لقد استعرته من ابن أبي رافع خازن بيت مال أمير المؤمنين، لاتزين به في العيد ثم أرده. فاستاء أمير المؤمنين من ذلك، وبعث الى ابن أبي رافع للمثول بين يديه، ولما كان واقفاً بين يديه عاتبه قائلاً: اتخون الأمانة ياابن أبي رافع؟. فقال: معاذ الله ان أخون المسلمين، فقال: كيف أعرت ابنتي العقد الذي في بيت مال المسلمين؟. فقال: إنها ابنتك ياأمير المؤمنين وقد تعهدت بإعادته وقدمت ضمانة بذلك، فقال بنبرة جادة: عليك أن تعيده الى بيت المال حالاً، وإياك ان تعود الى مثل ذلك أبداً، وإلا ستنالك عقوبتي.فبلغ الخبر إلى ابنة أمير المؤمنين، فأتت أباها وقالت: أنا ابنتك ياأمير المؤمنين وبضعة منك، فمن أحق مني بلبسه؟فقال لها: يابنت أبن أبي طالب، لاتعطي نفسك هذا الحق دون سائر النساء، هل كل نساء المسلمين يتزين في هذا العيد بمثل هذا العقد؟ أعيديه الى بيت مال المسلمين فوراً، فأعادته إلى ابن أبي رافع، فقبضه منها ورده الى موضعه.ونستدل من هذه الواقعة ان الاسلام استطاع أن يروض مجتمعه على المساواة، وان يثبت فيه جذورها وقواعدها، متجاوزاً نزعات الاستعلاء، وهو مايؤكد أن الاسلام يساوي بين البشر جميعاً في القيمة الإنسانية، فليس هناك شريف ووضيع في المجتمع الاسلامي، مادام الاسلام يسري بين الناس في الحق والواجب، فليس لأحد منهم ميزة في حق، ولانكوص عن واجب، فالناس جميعاً سواء امام التشريع، وسواء امام التكاليف، وسواء امام المنع والحظر.وتعطينا هذه الرواية مثالاً عملياً للمساواة، وتطبيقها في واقع المجتمع الإسلامي، إذ يمكن لأي مجتمع ان يعلن التزامه بمبدأ المساواة ولكنه ربما يحيد عن هذا المبدأ في سلوكه وأوضاعه، وحينئذ لايمكن ان يكون هذا المجتمع حريصاً على المساواة او مؤمناً بها، لأن المساواة هي المقياس الذي يمكن من خلاله الحكم على المجتمع.ولذلك يمكن القول أن المساواة في الإسلام ليست نافلة يمكن تجاوزها، ولاهي حلية يمكن التخلي عنها، بل هي مبدأ أصيل، وميزان ثابت، للعلاقات بين الناس.ولقد طبق المجتمع الإسلامي في عصوره المثالية مبدأ المساواة أكمل مايكون التطبيق، وخير مثال على ذلك موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك الرجل الأعمى الذي جاء الى الرسول يطلب العلم فأعرض عنه حرصاً على إسلام بعض الأقوياء، ورعاية لمصلحة الدعوة، فنزل القرآن الكريم ليدافع عن حق الأعمى الراغب في الهداية، وليزيل كل أثر لسطوة الجاه والمال، ويؤكد أن الإسلام لايعترف بمنزلة عليا لأصحاب الثروة أو القوة او الجاه، بل يقرر حقوقاً متساوية للناس جميعاً في الحياة وفي العلم وفي العمل، ونحو ذلك.وكثيرة هي الأمثلة على سطوع نور المساواة في المجتمع الاسلامي في عصوره الاولى، فقد كانت هناك مساواة في الحقوق، بحيث يستطيع كل انسان أن ينال حقه، ويحس بقيمته، فلا يهون ولايذل، بصرف النظر عن منزلة الانسان الذي يواجهه.ولقد حاول بعض الناس أن يشرعوا في المجتمع الاسلامي مبدأ الاستثناء والشفاعة في العقوبات، بحيث يصبح بعض الناس في منجى من المساءلة، أو بعيدين عن العقاب، كما حصل مع أسامة بن زيد الذي حاول الشفاعة عند رسول الله في شأن المرأة التي سرقت، وطلب عدم عقوبتها لكونها من الأشراف، فنهره الرسول صلى الله عليه وسلم ورد عليه بقوله: (( أتشفع في حد من حدود الله ياأسامه ؟))[c1]* إمام وخطيب جامع الهاشمي - الشيخ عثمان .[/c]
