( الصحويّون الحزبيون ) يعلنونها مدويّة ً :
ناصر العُمر، أو (البروفيسور) كما يصف نفسه في موقعه على الإنترنت، قال داعياً إلى دولة (الولي الفقيه) السنية، جهاراً نهاراً، ودون أي حياء: (نعم في الإسلام وللإسلام رجال دين(!). ألم يقل الله - تعالى -:{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} (83) سورة النساء، وأولو الأمر هم العلماء والأمراء، وطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء). انتهى. هكذا يقول بالحرف، نقلته لكم بالنص من موقعه، مقدماً العلماء حتى على الأمراء، في (ترتيب) لا يخلو من مدلول! العُمر يتحدث هنا، ويسوق هذه القضية، منطلقاً من أن الشأن الديني من (تخصص) أهل العلم الشرعي، أو أهل الذكر، أو كما يصفهم (رجال الدين).. غير أنه وقع في السياق في هذا (المنزلق) الخطير، والخطير جداً، دون أن يعي، أو دون أن يشعر، في خضم صراعه (السياسي) - كحزبي - مع من يقفون في المقابل ضد (الدولة الدينية) بمعناها (الكهنوتي الثيوقراطي) التي يدعو لها تنظيمه، وهو بشكلٍ أو بآخر امتدادٌ للنقاش الذي اثاره (الدكتور سعد البريك) عندما طالب علناً بالدولة الدينية، معترضاً على دولة (المجتمع المدني) التي سماها (الدولة المدنية). ولعل الشيخ ناصر العُمر قال مباشرة، ودون أي مجاملةٍ أو حساباتٍ أخرى، ما كان يتحاشى أن يُصرح به علناً الدكتور البريك، حيث ليس لدى العُمر - على ما يبدو - ما يخسره، بينما أن البريك لديه الكثير من (الاعتبارات) التي تضطره إلى أن يلف ويدور ويحور ويناور، عندما يعترض على دولة (المجتمع المدني)!.. من هنا تأتي أهمية (الحوار) عندما يجعل قضايانا المعرفية (تطفو) على السطح، ليكشف لنا بجلاء عن حقيقة مشاريع مثل هذه التوجهات، والأهداف التي جعلتهم يدعون علناً إلى أن (السياسي) في تراتبية صناعة القرار، (يجب) أن يكون تحت سلطة (الفقيه)؛ أي مجرد (أداة) في يد العالم أو الفقيه، أو صاحب التخصص الشرعي. ولعل تهرب الدكتور البريك من أن يرد على النقطة التي اثارها الأستاذ قينان الغامدي في الحوار المحتدم بينهما هذه الأيام، وهي المتعلقة (ببيعة) الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب (الفقيه)، للإمام محمد بن سعود (المدني)؛ والتي تجاهلها، وتحاشى النقاش حولها، كشفه لنا العُمر هنا بكل وضوح؛ وهو ما يؤكد أن (مرجعية) القوم لا علاقة لها بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، عندما يأتي الحديث عن (الشأن السياسي) تحديداً. ولا بد من القول، ومن باب الأمانة العلمية، أن دلالة (أولي) الأمر على النحو الذي ذكره العُمر لها في التراث الفقهي السني ما يساندها من الاجتهادات التفسيرية، والتي تقول بهذه الرؤية؛ غير أنها على مستوى التاريخ الإسلامي لم تعرف التطبيق؛ فلم يُعرف - قط - أن (نظرية الطاعة السياسية) في الإسلام، والتي ترتكز على مفهوم (أولي الأمر)، قد صرفها أحدٌ على المستوى السياسي إلى الفقهاء والأمراء؛ بل هي حصراً كانت في الأمراء تحديداً. وإذا كانت آلية (البيعة) على المستوى الإجرائي هي الأداة التي تحقق (الطاعة) عملياً، فإن التاريخ الإسلامي لم يعرف قط أن عالماً من العلماء، كالإمام أبي حنيفة، أو مالك، أو الشافعي، أو أحمد بن حنبل، وهم من كبار العلماء في تاريخ الإسلام السني، قد طلبوا لأنفسهم (بيعة) من أتباعهم، الأمر الذي يجعلُ (شراكة) الفقهاء في السلطة السياسية - كما يدعو العُمر - ليس لها إطلاقاً ما يُبررها تاريخياً؛ إذ ظلت مجرد (رأي) هامشي في المأثور الفقهي الإسلامي، لم تعرف التطبيق إطلاقاً، أمَا إذا كانت دولة (الخميني) تعتبر مثالاً (تاريخياً) يجب أن يُحتذى في رأي (البروفيسور) فذاك شأن آخر! ولا يعني البتة أننا عندما نرفض الدولة الكهنوتية أو الثيوقراطية أننا نرفض الدولة ذات (المرجعية) الشرعية للأنظمة والقوانين، وإنما نرفض أن تختل (المعادلة) التي قامت عليها الدولة السعودية منذ الطور الأول، فالثاني، فالثالث الذي نعاصره اليوم قبل أن (نبتلى) بفكر الإخوان المسلمين وإفرازاته الصحوية الأخرى؛ تلك (المعادلة) تقوم على أن القيادة والقرار (للمدني) أما الفقيه أو العالم، أو كما يسميه العُمر هنا وليس أنا: (رجل الدين)، فيبقى داعماً ومسانداً ومستشاراً وناصحاً ومفسراً ومفتياً وقاضياً للسياسي؛ وهذا - بالمناسبة - ما يقتضيه معنى الآية التي جاءت في صيغة الأمر: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (43) سورة النحل، فشرط السؤال في الآية هو عدم العلم؛ وهي الطبيعة الوظيفية للمستشار دائماً.. المهم أن القرار في النهاية، وتقدير المصلحة، يكون للسياسي وليس للفقيه. وهذا يلقي الضوء بقوة ووضوح على الاختلاف (الجوهري) بين نظرية الوهابيين (السياسية)، والتي قامت عليها هذه البلاد، وبين نظريات التيارات الحزبية (الإسلامية) المعاصرة من إخوان وسروريين وبالذات (القطبيون) منهم على وجه التحديد، وغيرهم. نقطة أخرى غاية في الأهمية أيضاً، ومنهجية في الوقت ذاته، وجدت أن من المناسب إثارتها هنا، مفادها أن مدلولات النص فيما يتعلق بالشؤون السياسية لا يمكن أن نفهمها إلا من خلال تطبيقاتها (التاريخية). مثال (أولي الأمر) هنا، مثال جيد لما أريد أن أقول. فعلى الرغم من أن هناك بعض التفسيرات التي تقول بالرؤية التي أبرزها (العُمر)، إلا أن عرض هذا التفسير على تاريخ مفهوم (الدولة) في الإسلام، يجعل مثل هذه الرؤى مجرد محاولات تفسيرية لا قيمة لها، والدليل أن مثل هذه التفسيرات التي اثارها العُمر بقيت طوال 1500 سنة حبيسة الكتب التراثية؛ حتى جاء بعض (الانتهازيين) وأعادوا بعثها من جديد لغايات محض (حزبية) ليس إلا. والأمثلة على هذه الجزئية - بالمناسبة - كثيرة، ليس هنا مجال الحديث عنها. أعرف أن هذا المقال سيثير الكثير من الزوابع، وملاحم الشتم والسب كما هو ديدنهم، وربما (سيتبرأ) منى كثيرٌ من الصحويين الحزبيين، إلا أن مسؤولية الكلمة تحتمُ عليّ أن أجهر به. * نقلاً عن/ جريدة "الجزيرة" (السعودية)