أضواء
تعيش أكثرية دول العالم في فوضى مالية كبيرة زادت حدتها مع الأزمة الدولية، فاضطرت هذه الدول ومن بينها أبرز الدول الصناعية إلى ضخ مليارات الدولارات في اقتصاداتها لتحفيزها منعاً للركود والبطالة، ونتج عن هذا الضخ المالي عجز كبير في الموازنات العامة وتراكم في الدين العام لا بد من معالجتهما عاجلاً أم آجلاً . لا يمكن إلغاء هذا العجز فقط عبر ترشيد الإنفاق، وإنما سيكون ضرورياً في مرحلة ما زيادة الضرائب كي تتعزز إيرادات الدول . ولا يمكن رفع الضرائب اليوم، إذ يتم عندها القضاء على بعض النمو الخجول المحقق منذ أشهر قليلة .وإذا كانت الدول المتقدمة تعيش هذه الفوضى، فكيف يكون حال الدول النامية والناشئة، بينها لبنان، التي تتخبط ليس فقط في خلل مالي مقلق، وإنما أيضاً في خلل إداري مرتبط بالفساد السياسي وجشع أصحاب الصفقات . وفي الحقيقة إن الفساد موجود في كل الدول، إلا أن حجمه وعمقه وامتداده إلى القطاعات العامة والخاصة يختلف جداً بين دولة وأخرى .في الولايات المتحدة مثلاً، هنالك عجز مالي عام كبير متفاقم منذ الأزمة . إلا أن العديد من الولايات يعاني أيضاً عجزاً مالياً ضخماً بسبب الأزمة . في ولايتي “نيويورك” و”نيوجرسي” مثلاً، يتم اليوم مراجعة هيكلية الضرائب كي لا تتأثر كثيراً بالأزمات المستقبلية . وما يجري اليوم هو أن الولايتين تعتمدان بشكل أساسي على ضريبة الدخل التي تدنت إيراداتها مع الأزمة التي ضربت كل الاقتصاد الأمريكي. قسم كبير من هذه الإيرادات يأتي من الضرائب على دخل القطاع المالي وخاصة جزأه المصرفي، والذي ما زال ينهار منذ سنة ،2008 نعلم جيداً أهمية “وول ستريت” في اقتصاد ولاية نيويورك التي تنعكس أيضاً على أوضاع ولاية نيوجرسي المجاورة والمتأثرة دائماً بالجارة الكبرى .في المدى القصير ستجري الولايتان تعديلات سريعة على النظام الضرائبي بحيث يصبح أقل تأثراً بالدورة الاقتصادية، كما ستخفف من بعض الإنفاق غير الضروري . نشير هنا إلى أن 45 % من موازنة نيويورك ينفق على التعليم و24 % على الصحة، ما يعني أن ترشيد الإنفاق سيرتكز على ما تبقى من خدمات . مستقبلاً، ستؤسس الولايتان صناديق ادخار تستعمل إيراداتها في الأيام السود.في الولايات المتحدة عموماً وتبعاً للإحصاءات الرسمية، تزيد معدلات التعويضات (أي أجور زائد منافع) في القطاع العام عن الخاص . في سنة ،2009 حصل موظف القطاع العام على تعويضات قدرت ب40 دولاراً لكل ساعة عمل، مقابل 28 دولاراً لموظف القطاع الخاص .يرتفع مستوى التعويضات كما الفارق بين العام والخاص بين ولاية وأخرى تبعاً لغلاء المعيشة وقوة النقابات وقدرتها على فرض شروط أفضل على رب العمل . تزيد التعويضات مثلاً على الشاطئين الغربي مثل كاليفورنيا والشرقي مثل نيويورك عن بقية الولايات، نظراً لغلاء المعيشة ولارتفاع تكلفتي السكن والصحة . فمعدل التعويضات في كاليفورنيا يصل مثلاً إلى 49 دولاراً للساعة مقابل 31 دولاراً فقط للموظف في ولايات الجنوب الغربي . على العموم، يستفيد الموظف في القطاع العام من تأمينات صحية كبيرة وسخية تقيم في الساعة بمعدل 34،4 دولار، مقابل دولارين في الخاص . كما يستفيد عامل القطاع العام من تعويضات نهاية خدمة سخية تقيم بـ 85.2 دولار من كلفة الساعة مقابل 41،0 دولاراً فقط لعامل القطاع الخاص . هذا يعني أن بإمكان القطاع العام ترشيد بعض الإنفاق خاصة أنه يسخو على موظفيه أكثر من القطاع الخاص، وهذا يقل مثيله حتى في الدول الصناعية الأخرى . فالتعويضات ليست فقط أعلى في القطاع العام، وإنما امكانية الطرد أقل بكثير، وهكذا يتعزز موظف القطاع العام كثيراً مقابل الخاص، وهذا ما يشير مجدداً إلى سوء عدالة عضوية في النظام الأ مريكي .في فرنسا، تعد الهيكلية الضرائبية متنوعة أكثر بسبب النظام الفرنسي العام الذي يحمي الشبكات الاجتماعية، وينظر بعطف أكبر إلى الفقراء والعاطلين عن العمل . يعتمد النظام الضرائبي الفرنسي (والأوروبي عموماً) بشكل أساسي على المساهمات الاجتماعية التي بلغت 312 مليار يورو في سنة 2009 تتبعه الضريبة على القيمة المضافة التي وصلت إيراداتها إلى 130 مليار يورو، أما الضريبة على الدخل، فلم تجب في سنة 2008 إلا 51 مليار يورو علماً أن الضريبة على أرباح الشركات وصلت إلى نحو 100 مليار . تدفع أكثرية الضريبة على الدخل من قبل الطبقات الميسورة الفرنسية، أي التي يقع دخل الأسرة السنوي فيها بين 77 ألف يورو و190 ألفاً . هنالك 4.2 مليون أسرة متوسطة في فرنسا تدفع زهاء نصف ضريبة الدخل . ما زال الاقتصاد الفرنسي يرتكز في الواقع على نشاط وحيوية الطبقات الوسطى، وهذا صحي جداً، إذ عرفناه في لبنان قبل سنة 1975 وفقدناه خلال الحرب بسبب الهجرة والقتل والدمار والفوضى . فالهيكلية الضرائبية الفرنسية تسمح إذاً، للدولة بالتأثير بسرعة وقدرة أكبر في الاقتصاد عندما تتأثر سلباً الأوضاع العامة .إضافة إلى ما سبق، أين هي حدود الفوضى المالية، أي حدود تفاقم عجز الموازنة وبالتالي تراكم حجم الدين العام؟ هل يمكن لأي دولة أن تستمر في تجاهل العجز المالي وتأثيره الحتمي في الفوائد والثقل الضرائبي وهيكلية الإنفاق وبالتالي النمو الاقتصادي العام؟ هنالك حدود للفوضى تحدد أبرز معالمها عبر البنود الآتية:أولاً: من واجب كل دولة تضطر إلى تحقيق عجز مالي أن تراقبه بحيث تتأكد دائماً من قدرتها على تمويله، وبالتالي على تسديد الدين العام . يجب أن تتأكد من إمكانية تحقيق فائض أولي مستقبلي يسمح لها بتخفيف ثقل خدمة الدين في الموازنة . لا بد من إيفاء الديون ولكن كيف؟ هل يتحمل المواطن زيادات ضرائبية كبيرة؟ هل يتحملها هو أم الأجيال المستقبلية؟ وبالتالي هل يحق لنا تحميلهم نتائج الفوضى الحالية؟ هذا سؤال كبير لكل الدول وبينها لبنان حيث نعيش منذ زمن بعيد في فوضى مالية لم نستطع ضبطها بعد .ثانياً: أعطت المصارف المركزية خاصة في الدول الصناعية تسهيلات نقدية كبيرة للمصارف كي تستمر في إقراض القطاع الخاص . ضخت النقد عبر شراء سندات الخزينة من الأسواق كي لا تؤثر زيادة النقد على مستوى الأسعار أي في التضخم . لكن هنالك حدوداً لهذه السياسة، إذ تبقى ضرورة التعاون والتنسيق مع وزارة المالية ضرورية كي تتحقق الأهداف المشتركة خلال الدورة الاقتصادية بسرعة وفعالية أكبر، فالأزمة العالمية ليست نقدية فقط، وبالتالي لا يمكن للحلول أن تكون نقدية فقط .ثالثاً: خلال الأزمة المالية الحالية ولمنع المصارف من الإفلاس، ضمن القطاع العام في العديد من الدول الغربية كل القروض المصرفية . من الأفضل أن تضمن فقط القروض المصرفية الجديدة وليس القديمة، إذ لا يمكن لأموال دافعي الضرائب أن تكون مسؤولة عن سوء تصرف المصارف في إقراضها . ما جرى يعد درساً سيئاً للمصارف التي يمكن أن تسمح لنفسها مستقبلاً بالتصرف بشكل مماثل وغير مسؤول.رابعاً: من الضروري أن يفهم المسؤولون عن المال العام كما الرأي العام أن تحقيق فائض مالي في أوقات الازدهار أكثر من مهم، بحيث ينفق في فترات الركود . لا يمكن للدول أن تبقى عاجزة في مالياتها العامة إلى ما لا نهاية . فالذي حمى أستراليا من الأزمة المالية العالمية هو ميزانيتها الفائضة في سنة 2008 التي سمحت لحكومتها بالتدخل بسهولة في الاقتصاد ، يشهد للحكومات المتعاقبة بحسن الإدارة في كل الظروف، وما يدعو للعجب هو تعثر تشكيل حكومة بعد الانتخابات الأخيرة بالرغم من النضج السياسي ونظراً لغياب المشاكل الاقتصادية التي تعزز خلافات من هذا النوع . تبقى المصالح الحزبية موجودة دائماً في كل مكان وزمان حتى في أستراليا .[c1] عن/ صحيفة (الخليج) الإماراتية [/c]