ابريل 1993 م - 1 ابريل 2006 م
عبدالرحمن إبراهيممن الغريب المحزن في بلادنا وربما في بلدان أخرى ان يحتفي المثقفون من أحباء وأصدقاء ومحبي هذا المطرب أو ذاك الأديب في ذكرى رحيلهما إلى العالم الآخر ومغادرة الحياة التي كانا اشعلاها واضاءا فضاءاتها إبداعاً.. فتنادى أولئك الغيورون بعيداً عن طقوس المؤسسات الرسمية المتعطنة وقرقعاتها الموسمية، أن وجدت ثمة قرقعات التي لا هدف لها سوى (الهبر) وتعبئة فراغات جيوب المسؤولين التي لن تغطيها فعاليات العمرالوهمية إلى احياء الرحيل فقط من أجل تذكير الآخرين بما قدما من عطاءات.قبل البدء..لقد أضحى الاحتفاء بذكرى رحيل المبدعين تقليداً يثير الترحم ويبعث على التباكي ويدفع إلى تذكار محاسن الموتى أخذاً بمقولة ( أذكروا محاسن موتاكم) ذات البعد الروحي كما لو كان الاعتراف الحقيقي بحياة وإبداع الراحل، إلا بعد رحيله.. أما في كينونيته ووجوده يملأ الحياة ضجيجاً وجنوناً إبداعياً، مسألة لا ترتقي إلى حد الاحتفاء.وهنا من حقنا ان نتساءل: لماذا لا نحتفي برجالات العلم والثقافة في ذكرى ميلادهم لاسيما في ذكرى الانعطاف الذي يحدده التقسيم المرحلي من الحياة.. كأن يحتفي بمناسبة بلوغهم الخمسين او الخمسة والسبعين؟!احمد قاسم .. رافد ورائد موسيقي كبيرفي نهر الموسيقى اليمنية المعاصرة ثمة روافد موسيقية عديدة.. ولكن الروافد الموسيقية الأساسية الكبيرة التي يتكون منها النهر الموسيقي في اليمن قليلة جداً .. ويكاد ينحصر تعدادها على أقل من اصابع اليد الواحدة.. وإذا ما حاولنا الحديث عن الاغنية والموسيقى المعاصرتين في اليمن .. فإن اسم احمد قاسم يتصدر مجموعة الاسماء التي تنطبق عليها معايير تأسيس الموسيقى المعاصرة.. وتأسيساً على ذلك فانه يستحق لقب (الكبير) .. أما في غياب المقاييس وسيادة الفوضى على الألقاب وطغيان المجاملات فقد غدت لفظة (كبير) مجانية تلحق باسماء انصاف الموهوبين والهواة وربما عديمي المواهب.لقد أكتسب هؤلاء الفنانون لقب (الكبير) لانهم اسسوا المفاهيم الجديدة للأغنية والموسيقى في اليمن.. ولعل ما يجعلنا نطلق عليهم هذا اللقب بجدارة وكل اعتزاز أنهم شقوا المسالك ورسموا السبل ووضعوا الأسس ليتعلم الآخرون .. وبنوا فوق أسسهم ونسجوا على منوالهم (فيكتور سحاب، السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة).حقاً .. هناك ارهاصات سبقت إنجازات احمد قاسم الموسيقية ومهدت لبروز هذه الانجازات، يتوجب الاشارة إليها والاعتراف بها كما هي محكومة في سياق زمني وملابسات اجتماعية معينة من المتعسر التغاضي عنها.. غير أنها وفقاً لمعطيات واقعها لم تمتلك مؤهلات الريادة الحقيقية.. وقد كان لبعض اصحاب تلك الإرهاصات معرفتها بعلم الموسيقى وتحديداً (النوتة) التي كان يجيدها ويتقنها الأستاذ يحيى مكي مثلاً، وهو الذي درس أحمد قاسم، وكان دون شك دافعاً لان يدرس احمد قاسم الموسيقى في القاهرة ثم فرنسا وبعدها استمر في دراستها في روسيا.وقد اعتمد عدد من موسيقيي اليمن الكبار على استعداداتهم الفطرية وتطوير مواهبهم من خلال المثابرة والاطلاع الشخصي في سبيل تهذيب تلك المواهب ونموها والارتقاء بها.. فإن احمد قاسم قد عمل على ترسيخ قدراته على الدراسة وقد تهيأت له الظروف على ذلك.لم يكتف احمد قاسم بالموهبة وهو المميز بها كعازف عود يشار إليه بالبنان ليس على المستوى اليمني وانما على المستوى العربي.. وهذه حقيقة مؤكدة لا يمكن تجاهلها أو انكارها إلا إذا الغينا عقولنا![c1]الاخلاص والوفاء.. في زمن اللاوفاء!![/c]من سوء حظ الموسيقار احمد قاسم .. الفنان الذي فصل بين ( العبقرية والجنون) انه ظهر في اليمن وهو طرف منسي من أطراف الوطن العربي.. وفي ظروف بائسة ظل محاصراً على مدى ستة عقود هي عمره بكل افرازاتها .. حاول ان يصطدم بها في محاولة تغييرها عبر فن الغناء.. ولكنه في كل مرة يجد لغة غير قادر على تغييرها تغييراً جذرياً.. ذلك ان محاولته كانت تقتصر على إمكاناته وطاقاته الفنية..والفن في أي مجتمع متخلف، وحده لا يقوى على الثورة بوصفها تغييراً شاملاً وما الفن كشكل راقٍ من أشكال الوعي الاجتماعي ليس سوى عامل من العوامل الثورية ومن هنا كانت طموحات احمد قاسم محدودة التوثب!! على أن احمد قاسم حاول ان يسخر موهبته الفذة في خدمة الثورة والتغيير الاجتماعي.. وقد وجدت الثورة بمفهومها الواسع، وليس استبدال نظام سياسي بآخر، أرقى تعبيراتها في نشاطه الفني منذ قيامها وربما قبل، في فاتحة الستينيات .. وليس ثمة حاجة للتذكير بالكم الكبير من الأغاني الوطنية التي صدحت بها حنجرته وعزفتها أنامله العبقرية.. ويكفي الفن اليمني كما يكفي الشعب اليمني فخراً واعتزازاً ذلك العمل العظيم لملحمته العظيمة التي كتبها الشاعر الكبير لطفي جعفر أمان بمناسبة الذكرى الثانية للاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967م بعنوان (موكب الثورة) هذه الملحمة التي لم نعد نسمعها حتى في الذكرى التي كتبت عنها وكأنها حدث عابر في سياقات الزمن العادية:يامزهري الحزينمن يرعش الحنين؟إلى ملاعب الصبا.. وحبنا الدفينهناك.. حيث رفرفتعلى جناح لهوناأعذب ساعات السنينيامزهري الحزينالذكريات.. الذكرياتتعيدني في موكب الاحلام للحبلنشوة الضياء في مواسم الزهوريستل من شفاهاالرحيق والعطور وبعد هذا كلهفي صحوة الحقيقةينتفض الواقع في دقيقةيهزنييشتد اوتادي إلىآباري العميقةيشلها .. يجذب منهاثورتي العريقةويغرق الأوهاممن مشاعري الرقيقةهكذا تغنى العملاقان لطفي أمان واحمد قاسم في رائعتهما (موكب الثورة) الملحمة الخالدة في نهاية العقد الستيني من القرن المنصرم.على أننا نتساءل هنا: هل يكون رد اخلاص ووفاء احمد قاسم المسكون بعشق الوطن الجحود والنكران واللاوفاء؟!لقد عاش احمد قاسم الفقير مادياً يمارس أرقى لحظات الغنى الروحي.. وقبل ان يفارق الحياة وينتشله الموت من عجينة واقعه الاجتماعي كما تنتشل الشعرة من عجين الخبز.. ظل يعاني من صعوبة المادة وهو الطموح الذي لم يكل أو يياس من تغيير واقعه بواسطة الثورة الفنية إلى الحياة الفضلى قبل ان يفارق الحياة.. فلم يجد بداً من بيع بيته وهو المكان الذي ارتبط به روحياً لما يحمله من ذكريات مع أسرته ونتاجاته الفنية الرائعة التي كان آخرها أغنية (اشتقت لك) التي تؤكد على تجدد قدرة احمد قاسم وتوهجه الموسيقي.. أليس من حقنا ان نقول ان فناناً عبقرياً هو احمد بن احمد قاسم برز في زمن غاب فيه الاخلاص وانعدم فيه الوفاء للمبدعين الكبار؟!انه زمن الغرائب والعجائب.. زمن اللاوفاء للعباقرة الأوفياء!!