مع الأحداث
«العقل المُجلبب» هو أقصى تعبيرات تطرف «العقل المؤدلج». إن كان «العقل المؤدلج» يصدر عن لائحة صارمة وطوباوية من التصورات والحتميات للكون والبشر والحياة والسلوكيات, تقود في مآلاتها الأخيرة إلى نهايات تدميرية بسبب علاقتها المتعجرفة مع الواقع, فإن «العقل المُجلبب» هو أقصى تطرف لـ»العقل المؤدلج», لأنه ينحدر إلى الوقوع في «جلباب» بند واحد من اللائحة الأيديولوجية الأصلية. وبدل أن يرى «العقل المُجلبب» هذا «البند», حتى من زاوية منطلقاته الأيديولوجية الشمولية ذاتها, كجزء من كل, فإنه يضخمه ليصبح الكل كله, وليصبح بوابة الأيديولوجيا المعنية, وساحتها, ركنها الركين و»هويتها» الأساسية.في «قضية» النقاش حول الحجاب, سواء في تركيا أو بقية المجتمعات العربية والإسلامية يتمظهر «العقل المُجلبب» في شكلين متناقضين بشكل مدهش: العقل الذي يقدس الحجاب ويرقيه إلى درجة يكاد يصبح فيها أحد أركان الإسلام, والعقل الذي يخافه ويخشاه ويسن القوانين لحظره وكأنه أحد منتجات السلاح النووي. ربما لم يحدث وأن تضخم زي ما من الأزياء ليصبح «رمزاً للهوية» كما تضخم الحجاب في راهن التفكير الإسلامي الأصولي المعاصر. كما ربما لم يحدث أن تحول زي من الأزياء ليثير حساسيات وتوترات التفكير العلماني الأصولي كما هو حاصل اليوم مع الحجاب في أكثر من بقعة من بقاع العالم. والمتهم الأساسي في الحالتين هو هذا «العقل المُجلبب» الذي صعد نجمه في العقود الأخيرة وزاحم «العقل المؤدلج» ذاته في ضيق أفقه ومحدودية أطروحاته, وانحدر بنا إلى فرعيات أصبحت هي الأجندات الأساسية. «أيها الحجاب... يا دمعة الزمان وصرخة الأجرام.. يا زينة المرأة في السماء.. يا شعار الخالدين والراحلين». لا نعرف طبعاً ماذا يقصد الكاتب. وكما الحال في كل مناكفة بين أي عقلين مُجلببين فإن استحكام الاستعداء بينهما لا يمنع عملياً التقاءهما على ذات المربع (اللا)معرفي الذي يوحدهما على رغم ضراوة «المعركة» حول «القضية المعنية». ميدان اللقاء بين العقلين المُجلببين هذه المرة هو «منح» الحجاب هذه المركزية الهائلة, وتحميله طاقة رمزية لا يمكن إلا أن تكون تدميرية لما سواها من معايير وقيم معرفية سواء أكانت خاصة بمنطلقات المدافعين عن الحجاب أو معارضيه. وهنا, وفي سياق «المعركة» المفتعلة الكبيرة يصير السماح بارتداء الحجاب, في نظر معارضيه, هزيمة فكرية وسياسية وسيادية مدوية, ويصير حظره أو انتقاده في نظر مؤيديه هزيمة فكرية وسياسية وسيادية ليس لهم فحسب بل و»للأمة وشعوبها وحضاراتها وعزتها» وإلى آخره من الكلمات الكبيرة التي تستخدم هنا باستسهال مفرط. ليست مناسبة هذه السطور هي ما صدر عن البرلمان التركي من قرار يلغي قرارات سابقة كانت قد حظرت ارتداء الحجاب في الجامعات التركية, وهو حظر سخيف كان قد صدر عن «عقل مجلبب» وتعدى على أوليات الحرية الفردية وعكس روح الجانب العسكرتاري من الأتاتوركية، وهو جانب ظل دوماً واهي الصلة بالجوهر العلماني لفكرة الحرية وفصل الدين عن الدولة. لكن المناسبة هنا هي سيل البكائيات الكتابية والتمجيد وإعادة خلع «القداسات» المتنوعة على «الحجاب», مما قام ولا يزال يقوم به «العقل المُجلبب» المدافع عن الحجاب, وبحيث صارت تُختزل «الأمة» بـ»حجابها» كما ورد ويرد في كثير من التعليقات والكتابات, وعلى منوال المثال الذي ستشير إليه هذه المقالة:يعنون أحد المُعلقين المشدوهين بـ»قداسة» الحجاب مقالة حديثة له بعنوان «في حضرة الحجاب», وهو اقتباس كاريكاتوري غير موفق عن عنوان أحد الكتب الأخيرة للشاعر الفلسطيني محمود درويش «في حضرة الغياب». في كتاب درويش يبرز أكثر ما يبرز «العقل والخيال المفتوح», على عكس محدودية وقِصر نظر «العقل والخيال المُجلبب» في المقالة التي ستصدمنا بكل جملة فيها. يُطلق «العقل المُجلبب» في المقالة عملية «صوفية» يخلع فيها على الحجاب أوصافاً علوية وفوق علوية مدهشة حقاً. يقول في الوصف: «يكف اللسان عن الكلام، ويعلن صمته للأنام، تقديراً واحتراماً للحجاب.. أيها الحجاب يا دمعة الزمان وصرخة الأجرام في الآفاق.. يا زينة المرأة في السماء، وجمال الكون في قممه الشماء.. يا شعار الخالدين والراحلين عن الحياة والزمان..». لا نعرف طبعاً وبالضبط ماذا يقصد الكاتب بالتأوهات الكبيرة مثل مناجاة الحجاب بـ»دمعة الزمان» أو «صرخة الأجرام في الآفاق», أو اعتبار الحجاب «جمال الكون في قممه الشماء» أو «شعار الخالدين والراحلين عن الحياة والزمان». لكن يظل من حق الكاتب بطبيعة الحال أن يرصف كلاماً إنشائياً تبجيلياً بالطريقة التي يشاء إزاء الموضوع أو القيمة أو الفكرة التي يشاء. لكن من حقنا أيضاً, كقراء على الأقل, أن نشعر بالقلق العميق من ناحية معرفية وفكرية بحتة إزاء منطلق التفكير والفلسفة التي تصدر عنها مثل هذه التعبيرات لأنها تتعدى الإنشاء الإنشادي إلى تسطير خلاصات حادة, إذ يتابع الكاتب قائلاً: «أيها الحجاب بك تَنعم الأمة وتسمو برونق أخلاقها، وتزهو القلوب في خلود طبيعتها.. معك مفاتيح الأمن والسلام.. معك الخير والأمان.. معك التضحية والعطاء.. معك التحدي والقوة والوقوف كالصخرة في وجه الأعداء». فهنا يتجسد «العقل المُجلبب» في أسوأ تجلياته حيث ينظر إلى الحجاب كآلة سحرية تحقق المستحيلات, فبه «تنعم الأمة» (كيف؟) و»تسمو», و»تزهو القلوب في خلود طبيعتها», والأدهى من ذلك أن الحجاب معه «مفاتيح الأمن والسلام», و..., و..., ومعه «التحدي والقوة والوقوف كالصخرة في وجه الأعداء». يصبح «بند» الحجاب في الأجندة الإسلاموية المؤدلجة هو الأجندة كلها, يلتهمها عن بكرة أبيها, فلا يعود «العدل» أو «الإحسان» الذي يمكن أن «تنعم الأمة به وتسمو», ولا يعود الأمر منوطاً بـ»الجيش الإسلامي», مثلاً, لإظهار «التحدي والقوة ليقف كصخرة في وجه الأعداء», بل إنه ذلك البند الجبار «الحجاب» الذي كان فرعياً ثم كبر وتضخم وصار منوطاً به القيام بمهمات ستصرعه على الفور لثقلها واتساعها عن قدرته. بيد أن الأمر لا ينتهي هنا, إذ ثمة امتدادات خَلاصية أخرى يُضاعف بها «العقل المُجلبب» من «القداسة المزيفة» التي يمنحها للحجاب, وعبرها يصل الكاتب إلى الخلاصة النهائية الحاسمة القاطعة التي تربط «مجد الأمة وشرفها وعزتها» بالحجاب, فيقول: «فبوابة تدمير المجتمع المرأة، وبوابة تدمير المرأة حجابها وعفتها... فإذا خلعت المرأة حجابها.. خلعت عن الأمة شرفها ورمز عزتها». أولى الخلاصات الصادمة هنا هي التأكيد على أن «المرأة بوابة تدمير المجتمع» وهي مقولة صيغت كجملة اعتراضية مسلَّم بها, (وماذا عن الرجل مثلاً, هل هو بوابة بناء المجتمع أبداً ودائماً؟). لكن المرأة هنا ليست سوى حامل لـ»الحجاب» الذي هو الأيقونة الأهم والمقدس الكبير. لا الفقر المدقع, ولا الظلم الفاحش, ولا الطغيان المتغول, ولا الأمية أو التخلف في كل مجالات الحياة قد يكون «بوابة» لتدمير المجتمع, بل المرأة ونقطة آخر السطر. والحل الوحيد الأوحد لسد بوابة التدمير هذه هو الحجاب, الذي به يتم الحفاظ على «شرف المرأة», ثم بالتالي «شرف الأمة», وتحويلها من «بوابة للتدمير» إلى «بوابة للنصر». وهكذا يتم اختزال «الأمة» وقيامها وقعودها في «الحجاب» الذي إن لبسته المرأة فإنها قامت بالعملية التاريخية المنتظرة في إنقاذ الأمة, وإن خلعته فإن تلك «الأمة» ليس لها إلا العار، بعد أن تكون قد خلعت مع ذلك الحجاب «الشرف ورمز العزة»! وما يُقلق هنا ليس المقالة المُشار إليها تحديداً أو كاتبها, فهي سيقت كمثال وحسب, بل المناخ الذي تصدر فيه وتعبر عنه, وحيث «العقل المُجلبب» يُعلي ويُخفض ما يشاء من الفرعيات ويمنحها مركزيات لا تستحقها, وهو قادر على جر وجرجرة «جماهير» و»شوارع» وراءه في عملية صراخية غرائزية لم تعد تنتمي حتى للعقل المؤدلج القاصر أصلاً، فضلاً عن أن تقترب من «العقل المعقلن».[c1]* عن / ( الاتحاد ) الاماراتية[/c]