( لم يكن اهتمام العرب بابن خلدون اكثر من مجرد ( موضة ) جاءت الى البلاد العربية من اوروبا شان سائر الموضات ) بوتول . أقرت المنظمة العالمية للثقافة والتربية والعلوم " اليونسكو " التابعة للامم المتحدة عام 2006م ان يكون العام العالمي لابن خلدون 1332-1406م وذلك بمناسبة مرور ستة قرون ميلادية على وفاته حيث تحتفل الدوائر الثقافية والاكاديمية في العالم اجمع بتنظيم جملة واسعة من المؤتمرات العلمية والندوات والملتقيات والحوارات والكتابات وغيرها من الفعاليات تحت اسم اليوم العالمي لابن خلدون فما الذي يفسر انبعاث فيلسوف قرطبة وتوهجه في سماء الثقافة المعاصرة وما الذي يمنح عبدالرحمن محمد بن خلدون التونسي الحضرمي هذا الزخم الجديد وهذا الدفق المتواصل ؟! ان ثراء وخصوبة واهمية النص الخلدوني هي التي جعلت صاحبه اليوم كما كان في الامس محط اهتمام ومثار نقاشات وسجالات ومحاورات فكرية وثقافية حامية ومثيرة ومتجددة باستمرار ذهب الدارسون من الشرق والغرب منذ زمن طويل لدراسة وبحث الخطاب الخلدوني وتحليله وتفسيره والكشف عما يحمله من افكار ونظريات ودلالات معرفيه ومنهجية بحيث اصبح اليوم من الرموز الخالدة في تاريخ الفكر الانساني والرموز لا تموت ابدأ فمنذ نحو قرن ونصف وسيل الدراسات والابحاث لم ينقطع عن فكر ابن خلدون وحياته ومنهجه واذا كان من الصعب جرد كل الدراسات والابحاث التي تناولت ابن خلدون في لغات عدة فانه يمكن القول ان ابن خلدون يعد من بين المفكرين القلائل الذين خطوا باهتمام منقطع النظير من العرب والاجانب ولا تخلو دراسة في فلسفة التاريخ او التاريخ او علم الاجتماع او الجغرافيا او التصوف او السياسة من الاشارة الى ابن خلدون ومقدمته الشهيرة في التاريخ الذي هي " كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في ايام العرب " والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر " . وليس ثمة مفكر اخر اكثر من ابن خلدون اثار اختلاف الباحثين والمؤرخين في تصنيف نسقه النظري والمنهجي ونطاق تخصصه العلمي الدقيق ففيما يعده البعض فيلسوف تاريخ يرى فيه اخر مؤرخ وعالم اجتماع ومؤسس علم العمران البشري وعالم سياسي ... الخ . فهو عند المؤرخ الانجليزي الشهير ارنولد تويني " قد تصور وصاغ فلسفة للتاريخ تعد بلا شك اعظم عمل من نوعه ويصفه " جورج سارتوت " في كتابه تاريخ العلم بقوله " لم يكن اعظم مؤرخي العصور الوسطى شامخاً كعملاق بين قبيلة من الاقزام فحسب بل كان من اوائل فلاسفة التاريخ سابقاً مسكيا فللي وبود ان فيكو وكونت وكورنو " اما " روبرت فلنت " فيرى " آنه لا العالم الكلاسيكي المسيحي الوسيط قد انجب مثيلاً له في فلسفة التاريخ هناك من يتفوقون عليه كمؤرخ حتى بين المؤرخين العرب .. اما في فلسفة التاريخ فقد كان فريداً ووحيداً .. لقد جمع مؤرخو العرب المادة التاريخية ولكنه وحده الذي استخدمها . ويرى فيه المؤرخ المعاصر هوبز بوم " النموذج الممثل لدراسة الانواع والتحول التاريخي .. نموذج قوي على نحو هائل ويكاد يكون متقدماً على زمنه مثلما كانت مقدمته " . ثمة مئات الدراسات غير العربية التي تناولت ابن خلدون بالتحليل والنقد والتقييم يصعب حصرها هنا ، اما على صعيد الثقافة العربية فانه يمكننا القول ان ما مفكر عربي معروف منذ عصر يفظة الوعي العربي حتى الان الا وكتب عن ابن خلدون ساطع الحصري ومحمد عابد الجابري وناصيف نصار ومدني صالح وعلي عبدالواحد وافي وعدنان عبدالله وزينب محمود الخضيري ونميرالعاني وعبد الامير الاعسموطه حسين وعلي الوردي وفؤاد اسحاق الخوري اذيدي عزيز العظمة ان جل وما تتميز به الدراسات الخلدونية باللغة العربية من غيرها بلغات اخرى يكمن في ما مثله ابن خلدون كما صدق لمفاهيم عدة اتخذت ميزات في الصراعات السياسية الثقافية في البلدان العربية منذ نيفوقرن مثل اتهامه بالشعوبية والدفاع عنه ضد هذه التهمة . في الواقع لا يمكن تفسير حضور ابن خلدون وحيويته في الفكر والثقافة العربية الاسلامية بل لابد لنا من الاخذ بعدد كبير من الاسباب والعوامل التاريخية والثقافية والسياسية والاكاديمية والعملية والمعرفية .. الخ ان اهمية ابن خلدون اليوم بالنسبة لنا في العالم العربي والاسلامي تختلف عن اهمية بالنسبة للاخرين في اوروبا واميركا والهند والصين وغيرها لقد كان ابن خلدون بالنسبة للحضارة العربية الاسلامية اشبه بالوهج الذي يشتعل قبل انطفاء الشمعة اذ هو اخر عقل عربيي عبقري مبدع في سلسلة طويلة من العقول المستنيره التي اضاءت العالم الوسيط منذ القرن السابع الميلادي حتى القرن الثالث عشر الميلادي امثال الكندي والفارابي وابن سيناء والفراهيدي والرازي وابن الهيثم وابن حزم وابن طفيل والغزالي وابن تيميه والشافعي واحمد بن حنبل وابن طفيل وابن رشد وابن عربي والمسعودي والطبري وابن كثير والخوارزمي وغيرهم من المثقفين الكبار الذين كان لهم شأن رفيع وما زال في تاريخ الافكار كان ابن خلدون هو مسك الختام لهذا الهرم الفكري العربي العملاق الذي تم بناءه على مدى ستة قرون من الازدهار والتقدم الحضاري والمدني والثقافي للتاريخ العربي والاسلامي ومن هنا تنبع اهميته بالنسبة لنا وهو الشاهد الحاضر على انهيار الحضارة العربية الاسلامية عاش عملية التدهور لحظة بلحظة ورصدها في مختلف تجلياتها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والاخلاقية والدينية .. الخ . لقد برزت الحاجة الى رؤية فلسفيه للتاريخ فجاء ابن خلدون لتلبيتها ففي زمن المحن الكبرى والاحداث الجائحه تتفتق العبقريات الفكرية العظيمة وفي ايام ابن خلدون كان الوطن العربي والاسلامي يشهد تغيرات عاصفة واحدات متسارعة ولما كانت تلك الاحداث تعكس في اتجاه العام " تراجعاً " وليس تقدماً فقد انبرى ابن خلدون لتفسير " التراجع " لا التقدم ومن هنا كانت فلسفة التاريخ الخلدونيه فلسفة للتراجع للتدهور والاضمحلال في التاريخ حيث نجد ابن خلدون بعد حياة حافلة بالنشاط والتجارب السياسية الناجحة والمخفقه نجده ينزوي في قلعة ابن سلامة في الجزائر معتزلاً السياسة وصخبها مستلهماً من التاريخ والدروس والعبر ليكتب مقدمته تحت وطأة " ما نزل بالعمر ان شرقاً وغرباً في منتصف المائة الثامنة " للهجرة = عصر ابن خلدون " من الطاعون الجارف الذي تحيف الامم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلص من ظلالها وفل من حدها واوهن من سلطانها وتداعت الى التلاشي والاضمحلال احوالها وانتقص عمران الارض بانتقاص البشر فخربت الامطار والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل الساكن .. وكانما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالاجابة " . يلخص هذا النص الخلدوني الرهيب المشهد المأساوي الذي كان يعيشه ويراه ويعيه ابن خلدون مشهد اضمحلال وسقوط الحضارة العربية الاسلامية ولم تكن مقدمة ابن خلدون الاسند توثيق لهذه اللحظة الغاربة اذ حاول تفسير ما يراه من تداعي وتحلل تلك الانبراطورية الاسلامية الشاسعة التي كانت تحكم العالم في العصر الوسيط وتكمن عبقرية ابن خلدون كما يقول المؤرخ الانجليزي " نيكلسون " في كونه الوحيد الذي استطاع الكشف عن الاسباب الخفيه للوقائع التاريخية .. واكتشاف قوانين التقدم والتدهور " . ربما كان الاسهام الابرز لابن خلدون يكمن في تمييزه الحادق بين الظاهر والباطن بين مظاهر الاحداث واسبابها المتخفيه بين التاريخ من حيث هو خبر عن الايام والدول والحوادث والتاريخ من حيث هو في باطنه " نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع واسبابها عميق فهو لذلك اصيل في الحكمة عريق وجذير بان يعد من علومها وخليق حسب تعبيره . ان حاجتنا اليوم الى ابن خلدون تعادل حاجتنا الى نظرة فلسفية للتاريخ فعدم تمكننا الى اليوم من فلسفة تاريخنا اعنى كتابته واعادة بناءه بصورة فلسفية هي احد اسباب لقد فهم ابن خلدون التاريخ فهماً عقلانياً وواقعيا اذ اتخذ من الظاهر التجريبي الاستقرائي لحظة نقدية لاكتشاف المنطق الداخلي للعملية التاريخية المحكومة بالتبدل والتغير والكون والفساد والحركة المستمرة وهو ذلك يكشف عن قانون التطور الديناميكي للحياة والمجتمع اذ يرى ان احوال العالم والامم وعوائدهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر انما هو اختلاف على الايام والازمنة وانتقال من حال الى حال . سنة الله التي خلت في عبادة " . وبعد ان ينتقد ابن خلدون المؤرخين وطرائقهم في فهم ورواية التاريخ ويبين تلك الاخطاء والاوهام والاباطيل التي يقعون فيها بسبب عدم امتلاكهم للمنهج النقدي التاريخي القادر على التمييز بين الاسطوري والتاريخي بين الحقائق والاوهام بين المعقول واللا معقول بين الممكن والمستحيل بين الحقيقي والزائف بين الثابت والمتحول بين الظاهر والباطن بين العام والخاص بين ماهو مشترك عن جميع الناس وما هو مختلف من العادات والثقافات بعد ان ينتقد ابن خلدون المؤرخين يعود ليعرف التاريخ تعريفاً لم يتجاوزه احد حتى الان بقوله : " التاريخ خبر عن الاجتماع الانساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الاحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات واصناف التقلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر باعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران لطبيعته من الاحوال " . في هذا التعريف الفهرسي الوظيفي يلخص ابن خلدون التاريخ ومحتوياته ويختصر وظيفته على نحو نستطيع معه ان نستخلص منه الاستنتاج بعد التحليل ان التاريخ في نظر ابن خلدون تاريخ حرب وتقاتل وتغالب وعدوان وتدافع بين التوحش الى التأنس كما بين التأنس الى التوحش ولم يكن التاريخ في حقيقته الواقعية الا تكيف ورد فعل وصراع واقتتال وتدافع بين الناس في سبيل الحياة المحكومة بالقانون الطبيعي الحفاظ على البقاء ومقاومة الفناء . قال تعالى " لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين " سورة البقرة الاية 25 " . لقد نفذ ابن خلدون بعمله الضخم " المقدمة " الى جوهر العملية التاريخية كاشفاً عن منطقها الداخلي وقانونياتها العامة وقوامها الفاعلة وحركتها الدائمة من النشؤ والنمو والازدهار ثم التوقف والهرم والاضمحلال وكانت نظريته في التعاقب الدوري للدول والنظم السياسية في التاريخ العربي والاسلامي ومحدداتها الاساسية القبلية " العصبية " والعقيدة والثروة كانت هذه النظرية موفقة الى حد كبير في تفسير الصيرورة التاريخية للمجتمع العربي الاسلامي في الماضي والحاضر فما زال تفسير ابن خلدون لتاريخنا ينطوي على قوة منهجية ومعرفية لم يستطع احد تجاوزها حتى اليوم وعلى الرغم من مرور سبعة قرون من الزمن على ابن خلدون الا ان من يقرأه اليوم سوف يجد التاريخ الذي فسره ماثلاً في حياة النظم السياسية المعاصرة التي تتعاقب على حياة الشعوب العربية الراهنة مع بعض الاختلافات الطفيفة لقد تأخرنا كثيراً في قراءة ابن خلدون وربما نحتاج الى زمن طويل كي نفهمه وحينما يفهم العرب ابن خلدون يمكن القول بانهم بدأوا بفهم التاريخ كما هو عليه بالفعل لا كما يريدون له ان يكون لقد توهمنا بان التاريخ اشبه ببغل حرون يمكن قيادته بالسوط لترويضه فخذ لنا فهمنا الزائف له وسبقتنا عجلاته التي تدور بلا توقف فالتاريخ لا قلب له ولا عيون ومن تم فهو لا يرحم احد ابداً انه يكسر رؤوس البشر ولا يكسر راسه ان كل ما نستطيع عمله بازاء التاريخ هو ان نفهم حقيقته ومعناه وليس هناك من هو افضل من ابن خلدون لنتعلم منه حسن النظر الى التاريخ في زمن لم يعد فيه التاريخ يجدي لحل المشكلات التي تواجهنا اليوم .
|
ثقافة
ابن خلدون.. الذي لم نقرأه بعد ..!
أخبار متعلقة