يثار الحديث بين حين وآخر، ويحتد النقاش أحياناً لمفهوم تذوق الاغاني القديمة والجديدة مع مقارنة بينهما تؤدي إلى تهميش وإبهات وجهة النظر الداعمة للاغاني المعاصرة ووصفها بالسذاجة والسطحية وإنكار الابداع والتماير فيها. ومن الجانب الآخر تأتي اتهامات الجمود والرتابة والقدم على كلاسيك الغناء والموسيقى العربية.. وفي هذا الحيز وعلى صدر هذه الصحيفة الغراء، سأحاول ان اعطي بعضاً من التفسيرات ذات البعد السيكولوجي لطبيعة هذا التناول بين القديم والجديد من عطاء الفن العربي.إنني اعتقد بأنه يمكن إجراء تحليل متواضع، بسيط وموجز من خلال عدد من المتغيرات التي اعتقد انها تلعب دوراً في تكوين المزاج والذوق عند المستمع والمشاهد للاغنية.[c1]المتغيرات البيولوجية[/c]لعل اهم عنصر في هذا المتغير هو الفئة العمرية ومايطرأ عليها ففئة المراهقين والشباب تتميز بخصائص نمو عضوية تلعب دوراً مؤثراً في تكوين سيكولوجية ذوقها وإختياراتها. ففي هذه المرحلة تزداد القوة الجسدية لحجم الجسم من نمو القلب والرئتين وزيادة ضغط الدم ونمو القدرة على نقل الاوكسجين إلى الدم بالاضافة إلى الزيادة في انسجة العظام والعضلات مع نشاط ملحوظ لافرازات الغدد"MUSSEN,AL,1984" إن هذا التغير البيولوجي لدى هذه الفئة يفسر القدرة لديها على تقبل نمط من الاغاني ذات الواقع الموسيقي الصاخب ذي الترددات أو الذبذبات الصوتية العالية، وهذا راجع إلى ان مستوى التناغم وقدرة الاجهزة العضوية لديها يسمح لهم بتقبل تلك الطاقة العالية الموازية لطاقة الجسم الداخلية.. وهذا ماجذب الشباب إلى الموسيقى الغربية في تلك المجتمعات وتؤكده موسيقى الاغاني العربية المعاصرة من استخدام الاجهزة الموسيقية الكهربائية ذات التردد العالي للذبذبات، كذلك فالقوة البصرية وتمييز الالوان تصل إلى قمتها في هذه المراحل العمرية، مما يجعلها تنجذب إلى مختلف المتغيرات في نموذج الفيديد كليب، هذا خلاف مبدأ الحركة المتغيرة "ACTION".اما بالنسبة للفئة العمرية المتقدمة في السن مافوق الاربعين (خصوصاً في مجتمعنا اليمني، حيث المعدل المنخفض في عمر الانسان-54سنة) فإن انحساراً ملحوظاً في جملة من الوظائف لعدد من الاجهزة يمثل مؤشراً واضحاً لتلك الاستجابة السلبية لذلك النمط أو النوع من الفنون الموسيقية والغنائية المعاصرة، فتدهور المقدرات البصرية والفقد المستمر للسمع وتأثر نشاط القلب والشرايين والاوردة ويطرأ على الجهاز العصبي من تغيرات، حيث ان عدد الخلايا العصبية يبدأ في النقصان بسبب موتها وعدم إمكانية تجددها في المراحل المتقدمة من السن حيث تصل نسبة الفقدان إلى حوالي الفي خلية عصبية يومياً وهذا مايفسره في الشيخوخة حدوث نقص في وزن المخ وحجمه Huyek and hoyes 1982.كما اجرى مجموعة من العلماء الروس في مجال وظائف الاعضاء دراسة على تأثير الموجات الصوتية (الموسيقية) على الفئات العمرية وهذا مافسر اقبال كبار السن على الموسيقى الكلاسيكية نظراً لتناغم مستوى الذبذبات للاسترخاء الذي يستطيع الجهاز العصبي والقلب تقبلها، ولهذا يلحظ إحتشاد كبار السن [img]ayoob.jpg[/imgفي صالات الاوبرا والموسيقى الكلاسيك، ومانحاول هنا أن نربطه ايضاً بالنسبة للموسيقى العربية( الكلاسيكية) والتي تتفق والتفسير اعلاه ايضاً.[c1]ثانياً: متغيرات نفسية اجتماعية[/c]ولايختلف الحال هنا من حيث تكون الانماط والاذواق في الشخصية استناداً إلى مراحلها العمرية. فنجد ان سيكولوجية شخصية المراهق أو الشباب تتميز بظهور الرغبة في التفرد والانعزال، والنفور من العمل والنشاط، الملل، النزوع المستمر إلى التغيير، عدم الاستقرار، الرفض والعناد، مقاومة السلطة ومنظومة العادات والتقاليد، هذا بالاضافة إلى الانفعالية الشديدة، نقصان الثقة بالنفس وزيادة احلام اليقظة.إن وقع النغم والاسلوب الغنائي الحديث الذي يعتمد على تكنولوجيا الموسيقى والاخراج واختيار الكلمات ذات التعبيرات السلسة المختصرة تمثل تعبيراً إشباعياً لتلك الرغبات وتلك المواصفات النفسية لدى الشباب والمراهقين.وما إنجذاب متقدمي السن إلى ذلك النمط الفني إلا عملية نكوصية حسب وجهة نظر مدرسة التحليل النفسي الفرويدية.وما نلحظه من تغيرات نفسية وإجتماعية في شخصية كبار السن من ضعف الانتباه والذاكرة وشدة التأثر الانفعالي والحساسية النفسية بالاضافة إلى الاكتئاب النفسي والارق التي تبدو جلية لدى المثقفين وفي المدينة اكثر منها في الريف يدفع بذلك الانسجام والتوافق لديها مع النمط التقليدي والقديم في حب الاستماع والمشاهدة.[c1]ثالثاً: المتغيرات السياسية والاقتصادية[/c]إن الفنون ـ وعلى وجه الخصوص هنا الغناء ـ تتفاعل بشكل وثيق الصلة مع المتغيرات السياسية والاقتصادية للبيئة المعينة، وهذا مايجسد بحق بأنها مرآة عاكسة لهموم المجتمع وحافظ ارشيف الذاكرة لمراحل زمنية وتاريخية حافلة بالاحداث.ففي مراحل النهوض الثوري لحركات التحرر العربية (الخمسينات ـ الستينات) إنتشرت الاغنية الثورية في العالم العربي وغنى كلاسيكيو الغناء العربي(أم كلثوم، محمد عبدالوهاب، عبد الحليم..) أناشيد الثورة والتصدي للعدوان الاسرائيلي وكانت تلك اغاني كل العرب.وفي اليمن ومع تفجر احداث ثورة 26سبتمبر والكفاح المسلح في 14 أكتوبر، مثلت الاغاني الثورية للمرشدي، وعطروش ، السمه، الحارثي، وايوب طارش.. الاختيار والذوق الاكثر شيوعاً لمستمعي تلك المرحلة العاصفة بمشاعر الثورة والتحرر.ومع نهاية عقد السبعينات ومطلع الثمانينات مثلت مرحلة الاجتياح الاسرائيلي في لبنان والمواجهة مع الثورة الفلسطينية تجدد الاغاني الثورية وبروز اسماء عربية لامعة (مارسيل خليفة، محمد حمام، جعفر حسن..) وجاءت حالة الانحسار وتصدع العلاقات العربية ـ العربية في حرب الخليج الثانية لتكون القشة التي قصمت ظهر البعير في العزوف عن تلك الميول للقضايا الوطنية والثورية، ولعب من جانب آخر الاجتياح السلمي لمنظومة الاتصال عبر الاقمار الصناعية والقوة المبهرة لنموذج الثقافة الغربية المدججة بالتكنولوجيا القادرة بمجرد لمسات على ازرار الكمبيوتر على التلاعب ودغدغة مخيلة واحلام اليقظة ليس للشعوب المحرومة وحدها ولكن حتى ابناء المجتمعات الغربية نفسها.هذا بالاضافة إلى سيكولوجية الاغتراب والقلق وتفكك تركيبة فئات المجتمع المختلفة من جراء النهوض الصناعي والتطور العلمي.. مما جعل النمط السائد من الفنون يتواكب مع كل تلك المتغيرات إبتداءً من سهولة تكاليف الانتاج للمواد الفنية وإنتهاءً بسياسة الانفتاح الثقافي والاتصال العالمي بين الشعوب وترويج ثقافة السياحة التي تستطيع ان تقدم من خلال اللون الثقافي الهوية الوطنية المندمجة مما يحقق مفهوم الربح الاقتصادي(حفلات، امسيات،..الخ) وايضاً تمثل اطار مواجهة وبديل محلي مماثل ومحاك للنموذج الثقافي الغربي المندفع بدون استئدان من خلال الاقراص والاتصال الفضائي إلى الشاشة الصغيرة.وكلمة اخيرة نؤكد من خلالها مجدداً ان عنصر الزمن يظل مؤثراً في التكوين السيكولوجي للمزاج التذوقي، ففي حين يرى اولئك الكهول والشيوخ اليوم أن أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم واسمهان مجد الغناء العربي وقمة الابداع والازدهار وهو في الاساس استذكار وإجترار لمراحل الشباب ومغامراته ومشاعره العاطفية. كما يرى جيل اليوم من محبي عمرو ذياب، نوال الزغبي، راغب علامه، لطيفة، أحمد فتحي..الخ أنه اللون الاكثر جمالاً.. حداثة ومعاصرة وجاذبية.. وستظل هذه النظرة بعد 20 عاماً لديهم لانها تمثل قصة حياتهم العاطفية والانفعالية، خلافاً لجيل القرن القادم، الجيل الذي ستزداد فيه سيطرة التكنولوجيا ولغة العلوم التجريدية وزيادة الاحتكار والمنافسة وصراع المصالح وهي حياة اكثر علمانية وعقلانية منها اليوم (ميل إلى الترميز) وبالمقابل سيكون لون الفن انعكاساً لذلك الواقع وسيبدو إبداع اليوم جزءاً من الماضي الرتيب ولكن الذي يجب الحفاظ عليه.وهذا في الحقيقة سيجرنا إلى موضوع مهم في فهم سيكولوجية التواصل الثقافي والحضاري بين الأجيال والذي نأمل أن نتطرق إليه في مناسبات أخرى.[c1]هوامش:[/c]النكوص "Regressi0n" آلية من آليات الدفاع النفسي يتم فيها الرجوع إلى مراحل باكرة من النمو وعند الشيوخ إظهار مستويات من السلوك أكثر بدائية.[c1]- مراجع:[/c]1- نمو الإنسان من مرحلة الجنين إلى مرحلة السنين/ د. أمال صادق + فؤاد أبو الحطب- القاهرة 1990م.2- الصحة النفسية والعلاج النفسي- د. حامد عبدالسلام زهران- القاهرة 1988م.
|
رياضة
سيكولوجية الأغاني وفروق الاجيال
أخبار متعلقة