عقيل يوسف عبدانيعتبر إنشاء الجامعة _ تلك المؤسسة التعليمية _ فتحاً جديداً في الحياة العربية، دفع الفكر إلى درجة حاسمة على صعيد الشك والتساؤل والعقلانية، ونزعت عن التعليم طابعه اللاهوتي الماورائي أو الغيبي، وحرّرت العقل من قيود التقليد والنقل، وفتحت آفاقاً رحبة لتأسيس فكر نقدي علمي واقعي، وحفزّت العقل على الاجتهاد والإبداع، ودربته على التسامح والتعددية والاعتراف بالرأي الآخر المخالف. وظلّت المعبّر الحقيقي عن الحرية بمفهومها الشامل، لذلك مثَّلت رمزاً للعلم والمعرفة والمثاقفة والاستقلال، وسداً ضد الطغيان ومصادرة الحياة السياسية والاجتماعية العامة. لقد ارتبطت الجامعة في تاريخها العالمي العريق بتحطيم سطوة التعاليم والقواعد التقليدية الصارمة، بالرغم من كل ما قيل عنها من أنها مؤسسات " محافظة " بحكم حرصها على تقاليدها، فإن الجامعة ارتبطت بالمنطقة العربية، بالاستنارة والتحديث والحداثة. لقد ألقى على كاهل الجامعة منذ قيامها مواجهة التسلّط السياسي والقمع الاجتماعي ومحاربة التخلّف والتعصّب والتطرّف والجهالة والخرافة، بالقدر نفسه الذي كان عليها أن تحارب نقائضها التقليدية في مجالات التعليم والمثاقفة، ولذلك كان تاريخ إنشاء الجامعات العربية _ كما يقول الدكتور جابر العصفور _ نتيجة دعوة (الطليعة) المستنيرة وليس الحكّام التقليديين، وبجهود الصفوة الواعدة من أبناء الأمة لتحقيق أحلامها في مجتمع مدني جديد. باستثناء الجامعات العربية العريقة التقليدية كالأزهر والقرويين والزيتونة وغيرها من الجامعات الدينية العتيقة، فإن الجامعات العربية في معظمها تعد حديثة النشأة وأول جامعة حديثة تم افتتاحها في المنطقة العربية هي الجامعة المصرية سنة 1908، وقد جاء إنشاؤها مقترناً بوصول طليعة مستنيرة في مصر إلى درجة من القوة التي أصبحت فيها قادرة على فرض حضورها على المجتمع وإشاعة دعوتها إلى التحديث والحداثة. صحيح أن هذه الطليعة عرفت فكرة الجامعة الحديثة عن أوروبا بعد أن تعلم الكثير من أتباعها في الجامعات الأوروبية، ولكن هذه الطليعة تحوّلت بمعنى الجامعة إلى معنى عميق من معاني استقلال الفرد والأمة، فأسهمت في تأكيد روح التحرّر حتى عن أوروبا. إن الإرهاصات الأولى لفكرة إقامة الجامعة بدأت مع النصف الأول للقرن التاسع عشر،على يد رفاعة الطهطاوي وتلميذه علي مبارك. ولكن، إلى أي مستوى وصلت جامعاتنا العربية _ حالياً _ قياساً بجامعات البلدان المتقدمة؟ يمكننا القول إن الجامعات العربية تتدهور، هي الأخرى، قياساً بجامعات البلدان المتقدمة، إلى مستوى "مدرسة ثانوية". ولعل بعض أهم أسباب هذه الظاهرة؛ أولاً، تراجع الفكر الليبرالي وسيطرة الفكر المحافظ أو التقليدي على الفكر الجامعي. ثانياً، عدم نشوء مناخ البحث العلمي، أي عدم تكوّن ظاهرة "الرهبنة العلمية "، بل إن اللقب الجامعي أصبح، في حالات عديدة، هو الأمل المنشود!! ثالثاً، انفصال الجامعة عن المجتمع وعدم ربط الأهداف التعليم الجامعي بحاجات تطوير المجتمع. رابعاً، عدم امتلاك " المركبة " اللغوية، وهذا يصدق على الطلاب كافة وعلى نسبة قليلة من الجسم التعليمي. خامساً، التراجع المذهل في المستوى الثقافي والمهني للجسم التعليمي الجامعي، بسبب حشر "التنابلة" و"الجهلة"، لأسباب سياسية واقتصادية ومذهبية وعشائرية...الخ في هذا الجسم. سادساً، التوسع الديماغوجي في التعليم الجامعي، المستند بدوره إلى تعليم ابتدائي ومتوسط وثانوي متدنٍ جداً. هذا التوسع، الذي هبط إلى مستوى مذهل بنسبة الأساتذة إلى الطلاب، إذ لم يعد يهدف إلى رفع المستوى الثقافي للمجتمع، ولا تلبية حاجات التطور الاقتصادي، بل فقط إعطاء شهادات تشكل ضرباً من امتيازات بلا استحقاق على حساب المجتمع. فعلى الرغم من ارتفاع وتنامي عدد الجامعات المذهل والذي حدث في الأعوام الأخيرة (أكثر من 150 جامعة عربية) فإنه لم يحدث نوع من التطوّر المحسوس في حركة المجتمع العلمية والثقافية، فعلى مستوى الفرد وأسرته صار المردود في معظم الأحوال أقل بكثير مما ينفق في العملية التعليمية. ولقد أثَّرت نوعية التعليم القائم في معظمه على التلقين والعقاب، وعدم تغذية العقل، وكبح عنان الخيال وقمع روح الفكر النقدي، أثّرت كلها في عدم تخريج ثقل ملحوظ من أفراد لهم شخصية مستقلة قادرة على الاختيار وتحمّل مسؤولية هذا الاختيار، مواطنين يتمتعون بروح المغامرة ومبادرة التجريب والتساؤل والقدرة على التفاعل الخلاّق، أي أنها ببساطة لم تخلق مواطناً على استعداد لممارسة حقوقه الديموقراطية والذَّود عنها في مختلف تنظيماته ومؤسساته المدنية والسياسية على السواء. لكن الغريب والعجيب في الوقت نفسه أن يكون مناخ الحرية داخل دائرة التعليم الجامعي تتناسب عكسياً مع مناخ الحرية خارج أسوار الجامعة بشكل خاص، وخارج التعليم بشكل عام. فمن الطبيعي أن تُحْكِم (الدولة) قبضتها السياسية والاجتماعية والفكرية على مراحل التعليم الأساسية بدءاً من مرحلة رياض الأطفال وحتى المرحلة الثانوية، والسبب وراء ذلك أن هذه المراحل تمثل مراحل ((التكوين)) المطلوبة للمواطن كما تمثله الدولة عبر أجهزتها الرسمية، لكن ليس من الطبيعي من منظور مصلحة الدولة أيضاً أن يظل التعليم الجامعي دائراً في فلك وحدود ((التكوين)) دون أن يتجاوز ذلك إلى فضاء ((التنوير)) الذي لا مجال لتحقيق الإبداع بدونه، ومن مصلحة الدولة لدوام الاستقرار والنمو والتنمية بمستوياتها كافة، أن تسمح بنظام جامعي حُر يتسع للنقاش والحوار والبحث دون قيود أو محظورات أو كوابح إلاّ الوصول إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه أو بلوغه من الإبداع الحر. إن الجامعة هي نقطة البدء والختام في العقلانية والحرية والتنوير يشع في جنباتها وداخل قاعاتها، فتعكسه في مرآة المجتمع، في حياته العقلية والسياسية والاقتصادية، ثم ينعكس وقد زاد نوره وتوهَّج داخلها مرة أخرى، فيتحقق التقدم المنشود وتستقر أمور الحياة وتنمو كل إمكانياتها. * كاتب يمني مقيم في دمشق
|
فكر
الجامعة فضاء النشاط التنويري
أخبار متعلقة