عميد شعراء الدحيف .. أبوبكر باسحيم
محمد بن ناصر العولقييعد "فن الدحيف" من أغنى واهم الفنون الشعبية في اليمن بما يتميز به من تنوع إبداعي وما يشتمل عليه من جزئيات جمالية تكاملية تتضافر أنسجة الفن فيها لتشكل لوحة فسيفساء رائعة يتناغم فيها الشعر واللحن والصوت والإيقاع والرقص ومزاج البيئة الشعبية الحاضنة لهذا الإبداع التراثي الشعبي..ويرتكز فن الدحيف اساساً على رقصة تسمى ((رقصة الدحيف))وموطنها محافظة ابين وعلى الأخص مدينة شقرة الساحلية ويمكن القول تاسيساً على ذلك ان هذه الرقصة هي إحدى الرقصات الشعبية للصيادين ولكن ان يكون الدحيف دحيفاً حقيقياً عند مؤديه ومرتاديه الا اذا اقترن بالشعر والغناء والإيقاع وأريحية السامرين وحفلات الدحيف تقام في مناسبات الزواج عموماً، وتستمر الحفلة من منتصف الليل حتى اشراقة اليوم التالي، وتدور خلال هذه الساعات السبع او الثماني التي تستمر فيها حفلة الدحيف مساجلات ميدانية مرتجلة بين شعراء هذا الفن المعروفين الذين يجتهد كل شاعر منهم في استنهاج استحقاقات المشاركة الجيدة والفاعلة التي يتطلبها هذا النوع من المساجلات مثل: سرعة البديهة، وغزارة القريحة، والحضور الذهني والنفسي الثابت وقوة القدرة على المجادلة، فضلاً عن امتلاك الشاعر خبرة سابقة في إيقاعات وأوزان الدحيف التي تنقسم الى ثلاثة أقسام: الدحيف الخفيف، الدحيف المتوسط والدحيف الثقيل.ولقد أنتج لنا هذا الفن الإبداعي الجميل تراثاً غنياً من الأغاني ، ثم مع الايام أصبح إيقاع الدحيف تصوراً ذهنياً اخذ الشعراء الشعبيون ينظمون على الحانه قصائد خارج حلبه مساجلاته الميدانية كلما شعروا بالحاجة الى التعبير عن موقف من مواقف الحياة، فاكتنزت جعبة فلكلور الدحيف بأسماء شعراء شعبيين مميزين صالوا وجالوا كثيراً في رياضه وافيائه وتركوا لنا تراثاً شعرياً ينطق بالجمال والحكمة والروعة، ويصور مواقف مبدئية لشعرائه من التغييرات والحوادث التي تمور في الواقع حتى ان القارئ لهذا الشعر اذا كان متمكناً من فهم إشاراته ورموزه ومدلولات الفاظه يستطيع ان يرسم رسماً كروكياً للملامح العامة للمجتمع الشعبي المحلي والتغييرات والحوادث التي تدور حوله وطنياً وعربياً ومواقف الإنسان اليمني البسيط منها، والتي يعبر عنها نيابة عنه هؤلاء الشعراء الشعبيون الملتصقون به في حماسه واحباطه وفرحه وحزنه ورضاه وغضبه والذين لايقول الواحد منهم قولاً الا وفي حسبانه انه لسان حال الأمة او على الاقل غالبية ابنائها كقول الشاعر:[c1]كُتب لي التعاسة والشقا والعذاب***ونا اسعد الناس زين الخلق زاكي المعاني شجعوني على السرقة ويد الطلاب***ماكان ذه عادتي ولاصفات اليمانيانا صانع التاريخ ماهوه انتداب***ولي حضارات وسط الغرب تثبت مكانيون رجعتوا إلى التاريخ ذي في الكتاب***يشهـد لنا سد مأرب بين قاصي وداني[/c]ان ذلك التعريف السريع بفلكلور الدحيف نراه تمهيداً ضرورياً لهذه المداخلة التي سنعرض فيها تجربة احد فرسانه البارزين وهو الشاعر الشعبي الكبير ابوبكر باسحيم الذي لا احد من شعراء الدحيف الاحياء الا وهو يعترف له بشاعريته المتألقة وبراعته وأسبقيته على من عداه في مضمار شعر الدحيف ارتجالاً ونظماً وفناً وموضوعاً حتى استحق من الناس لقب عميد شعراء الدحيف تقديراً للمكانة والأهمية التي يحتلها في هذا المضمار، وعمت شهرته جميع مناطق المجتمع المحلي في ابين، وبين كثير من المهتمين الحقيقيين بالأدب الشعبي اليمني...ولد الشاعر ابوبكر باسحيم في منطقة شقرة بابين عام 1941م ودرس حتى الصف الرابع الابتدائي ثم التحق بمدرسة الحياة فاشتغل صياداً يغترف من البحر الخير والحكمة والعمق والتواضع وصفاء الخاطر وحماسة العاطفة والتشبث بالمكان / الوطن/ الناس الحقيقيين والى جانب ذلك شارك مع الرجال البواسل في حرب التحرير ضد الاستعمار البريطاني حتى تحقيق النصر في 30 نوفمبر1967م التحق بعدها بالسلك العسكري ضمن الحراسة الخاصة للرئيس الراحل سالم ربيع علي (سالمين) ثم عين عام 1975م مديراً لمؤسسة الأسماك والتسويق الداخلي ثم مديراً لمشروع المياه بشقرة ثم عاد الى البحر حضنه الرؤوف ليواصل تجليات العشق مع قضايا الحياة والوطن ومع الطبيعة النقية حتى أصابته بالشلل في سبتمبر 2002م..ان رحلة الباسحيم من البحر الى أحداث البر ثم العودة مرة أخرى الى البحر قد علمته أشياء وأشياء، ودهنت شاعريته بإصباغ متعددة ففي حين كانت اندفاعته الاولى من البحر الى أحداث البر مصحوبة بالحماس والبراءة الثورية والصخب والخطابية فإن عودته الى البحر اتسمت بالإحباط والتذمر والرمزية والحزن..لقد كان الباسحيم في اندفاعته الاولى شاباً متقداً بالعفوية الثورية، ومؤمناً باجرائاتها وقدرتها على التغيير الكاسح والشامل ليس على مستوى الساحة اليمنية فقد بل وعلى مستوى المحيط الخارجي الملاصق لها (الجزيرة والخليج) ومتشيعاً تشيعاً كاملاً لقائد ذلك الزخم الثوري الرئيس الراحل سالمين، فاتت قصائده التي قالها في هذه الفترة انعكاساً طبيعياً لحالة الغليان الثوري التي تصطرع في داخله والفعل النضالي العفوي الذي يشارك في مسيرته فوق الأرض ، ففي قصيدته ( صرخة الحق) التي قالها في عام 1969م في احتفال رسمي يقول الباسحيم :[c1]الف حيا ومرحب مرحباً بالوفود مرحب على الرأس وعلى العين بطرح وفوديهذي ليلتي وبذلت فيها جهودوتحققت بعدما سارت عليها جهوديسار ناجي ومدرم هوه وعبودوالهندي وعباس وابن الدوح يانود وديعليكم سلام الله وأطيب ورودياذي مشيتو بنا رغم انف الحسوديلكم يشهد التاريخ طول الوجودياصيحة الحق حطمتي جميع القيودوظلوا الطغاة الظالمين شرودمثيل البوش ذي ماشي عليهم نشودي[/c]وبعد هذه التحية لشهداء ثورة 14 أكتوبر المجيدة الذين صنعوا للباسحيم ليلته الاحتفائية تلك وأزاحوا الاحتلال وقرود العمالة من فوق ارض جنوب اليمن يمتد نفس الباسحيم الى تحريض المحيط الخارجي قائلاً:[c1]ويا رأسي ابتـدع ودرج بنود***نالي بطئ ما استمع منك ولارا بنوديسير يامرسلي مع نسيم البرود***طـوف اليمن كلها مع نسيم ألبروديوسلم على زرنوقها والزيود***وعلى الشوافع ودخنهم بعنبر وعوديوبعد أتوجه نحـو ذاك الحدود***نحو الجزيرة ولوطال السفر والبعوديقل لهم لامتى هذا العمى والرقود***وصيـح فيهم وقول أتنبهوايارقودمتى منكم بسمع حنين الرعـــود***كما إني ياخوك تعجبني حنين الرعويونا رهنكم وقائدي والجـنود***والشعب رهن الإشارة والطلب والردوديمعي الهيج ذي يطلع ركبها سنود***والتجربة مسورة لما طلعها سنودي[/c]ويستمر على هذا المنوال في قصائده الثورية والوطنية الأولى معبراً عن طبيعة المرحلة حينها يشيد بانجازاتها ويهاجم أعداءها في الداخل والخارج واصفاً إياهم تارة (بالحاقدين) كما في قوله بمناسبة افتتاح مصنع الأسماك بشقرة عام 1976م.[c1]على عينكم يا أيهـا الحاقدين***مصنع للأسماك والثاني يصنع حريرهومصنع لخضرتـنا ومصنع طحين***وكل مصنع هنـا شبابنـا ذي يديـرهكفى حقدهـم وما مضـى من سنين***كفى كفى ياحياة السلطنة والعشيرة[/c]وتارة اخرى يصفهم بـ(النفوس الحقيرة) كما في قوله:[c1]توعدونا وبدكة توعدونا بطـين***ولابنيتـوا حجر ولازرعتـوا مطيرةوكـم من مآسي كلتـهـا بالثمين***تاريخــكــم زفت يا أصاحب النفوس الحقيرة[/c] وتارة ثالثة يختار لهم وصف ( النفوس المريضة) كما في قوله بمناسبة افتتاح مزرعة الدواجن بشقرة:[c1]حلمـنا قـد تحقق والأمل مايزال***يــراود أفكارنا تحقيـق أشـيـاء كثيرةوالنفوس المريضة سابحة في الخيال***وحنا سرحنا وتدوي أصواتنا في المسيرةصوتنـا قبل مدفعنـا ــيهز الجبال***ولانبالـغ هنـا ردفـان يشهـد وصيره[/c]كما يصفهم ايضاً بـ (الحالمين برجوع الماضي) و ( المندسين) كقوله:[c1]وأتنه ياحالم .. الماضي رجوعه محال***أبشرك إن هذي الاولـة والأخيــرةبهـوزر ودبابة ختمـنـا المـقـال***لكل مندس باقي في جنوب الجزيرة [/c]لقد كان الشاعر ابوبكر باسحيم خلال هذه المرحلة التي وصفناها بمرحلة اندفاعه من البحر إلى أحداث البر شاباً متقداً بالعفوية الثورية والحماس فكان شعره معبراً اميناً عن طبيعة المرحلة نفسها التي كان يعيشها جزء من الوطن اليمني حينذاك بايجابياتها وسلبياتها ويصلح هذا الشعر في رأيي ان يكون وثيقة تاريخية حية لمن يريد ان يدرس نمط التفكير الجماعي والمزاج السياسي العام الذي كان سائداً خلال هذه الفترة التي كان الباسحيم يعبر عنها بلسان حال الرضي والتأييد والتي يمكن تسميتها زمنياً بأنها الفترة الممتدة من انجاز الاستقلال الوطني في نوفمبر 1967م إذ كانت قصائد الباسحيم نسخة جمالية وفنية لنمط الاحساس الموضوعي المشترك السائد لدى غالبية ابناء المجتمع هنا حينها بغض النظر عما اذا كان الفعل الثوري الناتج عن هذا الاحساس متوافقاً مع رؤانا وافكارنا اليوم او يناقضها..واتسم شعر الباسحيم في هذه الفترة بالخطابية والمباشرة وحدة السخرية من الخصم والعاطفية الملتهبة الصادقة انسجاماً مع موقفه الإبداعي الذي اختاره كمحرض شعبي لصالح قوى التغيير الثوري وإجراءاتها مع ان ذلك لم يدفع به الى الابتذال والركاكة بل اشح مجمل هذا الشعر بقوة السبك واختيار اللفظة الشعبية الاكثر نفاذاً الى الوجدان موسيقياً ودلالياً، والعبارات والمعاني الاسرع تاثيراً وسيطرة على المتلقي واذكاء روح حماسته.ولكن هذا الشعر المتسم بالخطابية والعنفوان الثوري العفوي الصادق والاندفاع ينحسر فوراً من شاعرية أبي بكر باسحيم منذ يونيو 1978م حينما يعود شاعرنا الى البحر مرة اخرى مرغماً بعد مقتل نموذجه الثوري سالمين وبادئاً فترة رفض ومرحلة جديدة في تجربته الشعرية هي مرحلة الحزن والرمزية.