أم فادي صحوة في غير أوانها ومكانها.. والشيء في غير أوانه دائماً بلا طعم.. هكذا كان شأن صحوتهم.. صحوة عنيفة جانحة هدفها لم يكن تصفية النفوس وإنما إشعال النفوس وخلخلة الصفوف.الذي نعرفه جميعاً أن الإنسان الذي لا يريد أن يطهر نفسه حتى يسامحه ربه ويعفو عنه يبتهل إلى الله ويسبح ويدعوه طلباً للمغفرة ويعيش ذلك بهدوء (منه لربه) ويكلل تلك الصحوة بالذهاب إلى العمرة أو الحج لغسل بقية ما علق به من ذنوب.لم أسمع عن شخص أراد التوبة والعفو من الله والناس وذلك بأن قام بتجنيد كل وسائل الإعلام ودعا للاحتفال بتلك المصالحة مع النفس.. وأي نفس.. حتى الراقصات عندما يعتزلن ويتبن يعملن ذلك بهدوء.خلال الأسابيع الماضية كثر الحديث عن الثالث عشر من يناير وكثر معه النبش في الذكريات المريرة.. يوم الحدث الأليم الذي مازلت أتذكر بداياته وكأنها الآن.. كنت طالبة في الصف السادس أقبع أنا وزملائي التلاميذ على مقاعدنا نستمع الى شرح مدرس الجغرافيا الذي كان يداري عينيه بنظارة سوداء.. كنا في نهاية اليوم الدراسي وفجأة يصل إلى مسامعنا دوي قنابل ومدافع.. أصابنا الرعب من ذلك الصوت.. وبدأنا ننظر إلى بعضنا البعض وعلامات السؤال ترتسم على العيون والوجوه.. أما الألسنة فقد أصابها الخرس بعد أن ألجمها الخوف.. فتركت مهمة السؤال للغة العيون المتوجسة.بدأنا نستعد للهروب لكن معلمنا الصارم صاح بأعلى صوته ليأمرنا بالهدوء وبأن نلزم مقاعدنا قائلاً لنا: غربان.. هم الآن يقومون بقتل الغربان (في تلك الفترة كثرت وتوالدت جماعات الغربان بشكل كبير ومخيف في م/عدن, فعملت الدولة (على محاربتها بالبيض المسموم وبالرصاص أيضاً) ومن هنا فإن معلمنا الطيب اعتقد أنهم يطلقون الرصاص على غراب ما لكن الصوت كان أقوى من صوت الرصاص.. لقد كان صوت مدافع.. مما جعل أحد التلاميذ الأشقياء يعلق بصوت خافت: هل معلمنا مصاب بحول في النظر أم في السمع؟!ارتفع مستوى الصوت وارتفع معه مستوى الخوف.. فجأة تفتح أبواب الفصول لنرى أمهاتنا وقد قمن بمداهمة المدرسة واقتحام الفصول الدراسية وأخذننا بالقوة وهن مذعورات باكيات فعم الهرج والمرج ممزوجين بالفزع والهلع.أقسم بالله بأنني عندما أتذكر ذلك المشهد تدمع عيناي حرقة وألماً.. ومعلمنا الجليل واقف في مكانه معتقداً أن تلك الأصوات ما هي إلا أصوات رصاص قتل الغربان شأنه في ذلك الاعتقاد شأن كل أبناء م/عدن الطيبين.. حتى أنه بعد انتهاء الحرب عرضت مسرحية بعنوان (غربان يا نظيرة).استمرت الأصوات واستمر القتل في كل مكان.. حتى أن والد ووالدة صديقتي علقا في منطقة خور مكسر ولم يتمكنا من العودة إلى منزلهما في منطقة التواهي إلا بعد أيام ومشياً على الأقدام, وبعد أن سارا وجثث القتلى مرمية على جانبي وقارعة الطريق.. أصيبت والدة صديقتي بهستيريا بسبب ما شاهدته وداسته من جثث بالخطأ لحظة هروبها.. ولم تستطع ممارسة عملها فيما بعد كممرضة في مستشفى الجمهورية, فكلما أبصرت جرحاً أغمي عليها وهي الممرضة الناجحة في عملها.. فعندما كانت تحكي عن (عرس الدم) الذي شهدته تقشعر لكلامها أبداننا فما بالكم هي من عاشت الحدث عينه.يا من ذكرتم الحزينة البكاء.. من يسامح من؟! فكل من فقدوا عزيزاً في تلك الحرب سواء كان أباً أو ابناً أو أخاً أو زوجاً ستظل لعناتهم تلاحقكم إلى يوم الدين.كل هذه الذكريات أثارتها زمرة جديدة قديمة على الساحة مؤخراً فبدلاً من القول (يا حيطة داريني) راحوا يكرسون كل جهودهم ويشحذون كل أسلحتهم من أجل معالجة الخطأ بالخطأ.هؤلاء المرضى الناقمون يعلنون التوبة والسماح عما قاموا به في 13 يناير 1986م من مجازر راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء الذين تم تصفيتهم بالبطاقة الشخصية.. مروراً بمسلسل الاغتيالات والتصفيات التي طالت كل الشخصيات الوطنية عقب تلك الأحداث.جئتم تعيبون على الوضع وما به من أخطاء.. نحن لا ننكر أن هناك أخطاء ولكنها لا ترتقي إلى مستوى أخطائكم بل جرائمكم.. فلكل مرحلة أخطاء.فمن خلف ستار الموت جئتم تبحثون عن معاني الحياة.. إن مياه العالم كلها لن تستطيع غسل أيديكم وأنفسكم الملطخة بدماء من أدخلتموهم المشرحة وتفننتم في قتلهم.جئتم تزايدون وتتاجرون تحت مسمى العفو والسماح والتصالح والوئام وتناسيتم الرصيد الوافر من صفحات المصالحة والتسامح والعفو الشامل والتعويضات لأبناء الشهداء التي قدمها فخامة الرئيس / علي عبدالله صالح الذي مثل بشخصيته وضرب أروع صورة من صور التسامح في العصر الحديث, وهو الذي أصدر عفواً شاملاً عن جميع من غادروا البلاد بعد حرب 94م, وهو الذي أصدر بعد ذلك العفو العام والشامل عن قائمة الـ (16) رغم ما ارتكبوه من أخطاء فادحة في حق البلاد والعباد, وهو الذي أصدر عفواً عاماً عن جميع من حاربوا الدولة في حرب صعدة, وصفة السماحة لصيقة به بشهادة العدو قبل الصديق, أما عن تسامحكم فهو مسلوب الحقيقة, مبني على التزييف والتدليس لعقول المغرر بهم ..فأنتم أردتم بذلك عودة مصالحكم والارتماء في أحضان العملاء والموتورين والحاقدين على البلد, فأنى لكم التسامح والتصالح؟! ولو أراد الله للتاريخ أن يعود إلى يوم 13 يناير 86م مرة أخرى لفعلتم مثلما فعلتم ولخضتم في بحار الدماء كما خضتم دون أن تتذكروا التصالح والتسامح وطي صفحة الماضي.. هذا هو حالكم ومآلكم.الإنسان العاقل هو الذي يفحص أهدافه على ضوء مصلحة الوطن وعلى ضوء الأخلاق والدين وفي حدود الممكن وليس المستحيل، وأن يعيش مع الآخرين ولهم, فنحن م/عدن نكره السلبية كما نكره العنف ونحب الاتزان والتعقل.. ونحب التمسك بالكرامة لكن دون مغالاة ولا تطرف.. أما التصرفات التي تصدر عن القائمين على لقاء 13 يناير للمصالحة والوفاق تدل على أنهم يعيشون محنة بسبب فشلهم في كل شيء.. فالفشل عند بعض الناس يولد طاقة اسمها الحقد.. وللتأكد من ذلك الحقد الذي أدخروه طويلاً في دهاليز أعماقهم المظلمة.. عليكم أن تنظروا إلى بشاعة أعمالهم الظاهرة على وجوههم المغطاه بالتجاعيد والمزدحمة بخطوط طولية وعرضية.. ولو تكلم أي خط منها سوف يحكي قصة.. أو موقفاً.. أو ساعات ألم من ساعات مذبحة الثالث عشر من يناير.. ونحن نقولها لكم بكل صراحة ..لا نريد لظاهرة الغربان أن تعود من جديد.
أخبار متعلقة