سبتمبر والفن
منذ ان كان شاعر القبيلة في العصور الإنسانية الاولى يلهب بشعره حماس المقاتلين، ويستثير هممهم ليجلبوا النصر لقبيلتهم، منذ ذلك الحين ـ ربما ـ ولدت الإرهاصات الاولى لما نسميه اليوم بالأغنية الوطنية.كان الشاعر هو المؤرخ الأول لتلك الحروب الأولى ، وقد حرص ان يوثقها في شعره الحماسي ، وحفظها أفراد القبيلة من بعده، متغنين بانتصاراتهم تلك والتي وصلت إلينا عن طريق شعرهم المتواتر.وأظن، أنه بعد زمن طويل من ذلك، عندما اتسع مفهوم القبيلة ونشأت فكرة الوطن ومن بعدها الحكومة أو الدولة، وتعددت الأوطان والدول، واختلفت المصالح ونشبت النزاعات على مصادر الثروة المحدودة ظلت الحاجة ماسة ـ كما في السابق ـ إلى نوع من الأشعار تثير الحماسة في المقاتلين والجنود لجلب النصر، ثم تحولت مع الزمن إلى اهازيج و"زوامل" بتعبيرنا اليمني ثم اصبحت جزءاً من الكينونة الوطنية والقومية لكل شعب من الشعوب .وأظن أن الأغنية الوطنية اكتسبت في العصر الراهن خاصية جديدة ، خاصة على اشتداد الكفاح الوطني للشعوب ضد الاستعمار وقوى الاستبداد لنيل حريتها ، والتخلص من نير العبودية ، واسر الظلم، فصارت الاغنية تقوم بدور لايقل عن دور البندقية ووسائل المقاومة الاخرى.وعلى سبيل المثال فأن الحزن الزنجي في الجنوب الأمريكي هو الذي فجر موسيقى "البلوز" في القرن التاسع عشر خلال اندفاعاتهم الكبرى إلى الشمال الذي منح حقوقاً لم يرغب الجنوب في منحها لزنوجه. وفي الطريق إلى حلم الانعتاق الذي بدأ خلاله التشظي الزنجي ومات خلاله الآلاف .. ووسط نزيف الهجرة أو المحنة الكبرى وعذاب الموت ولدت تلك الموسيقى التي تركن في الوجدان وماتزال تعيش حتى اليوم.وبهذا المعنى، فان الاغنية لوطنية شديدة الارتباط بكفاح الناس من اجل الحرية، ويحب الانسان لحريته التي تبلغ مبلغاً كبيراً إلى درجة الاستشهاد في سبيل تحطيم اغلاله والظفر بحريته.لقرد فرضت الحرية نفسها كإحدى القضايا الكبرى التي حاول الشعر معالجتها، والظفر بالحرية يستلزم القتال من اجل نيلها، فأصبحت الحرب من اجل الحرية والدفاع عن الوطن موضوعاً للشعر وللاغنية وللأداب والفنون عموماً لما تنطوي عليها من خصائص بطولية ومأساوية ومن تعقيدات. والحرب بهذا المعنى ليست الماضي فقط بل ايضاً الحاضر والمستقبل لما فيها من عوامل كثيرة متشابكة.ولا أعتقد ان الاغنية الوطنية العربية ومثيلتها اليمنية تشذ عن هذا المنحى التاريخي المفترض، بل هي شديدة الصلة به، لكنها تأخذ صفات وخصائص هي من الخصائص الاجتماعية والنفسية للشعوب العربية في كل الاطوار التي مرت بها خلال نشوئها الطبيعي الاجتماعي والسياسي منذ كانوا أعرابا ، وبعد أن عاشوا عيشة زراعية ومن ثم حياة الحضر، إلى طورهم الحضاري الراهن.وبالتأكيد، لست بصدد مبحث تاريخي حول نشوء وتطور الاغنية الوطنية بقدر ما يهمني الاشارة إلى الدور الذي اسهمت به في اذكاء روح النضال لدى شعبنا اليمني خلال مراحله المختلفة خاصة في العصر الراهن. فقد عبرت هذه الاغنية عن طموحه وتطلعاته إلى الحرية ولعبت دوراً لايستهان به في استنهاض همته وحميته للاصطفاف في أتون الكفاح الوطني العام الذي كانت نتيجته المنطقية قيام ثورتي سبتمبر وأكتوبر ووضع نهاية لعهود الاستعمار والاستبداد.ولابد ان هناك شيئاً ما في الحان تلك الاغاني ـ إلى جانب كلماتها طبعاً ـ يوحي بالحرية وبالنصر ولابد ان ذلك شديد الارتباط بالقيم الروحية والطبيعة الشخصية للشعب اليمني. ويؤكد هذا على أهمية الربط بين العمل الفني وقدرات المبدعين والطريقة التي يتلقى بها الناس هذه الاعمال التي تجعلهم أو تدخلهم في حالة شعورية أو لاشعورية ليس من القبول والاندماج فحسب، بل الاستجابة والفعل إلى حد التضحية بالنفس لو تطلب الامر ذلك.وكلنا نعرف الدور الذي لعبته الاغنية الوطنية في مصر في مجابهة العدوان الثلاثي عليها، والشهرة العظيمة التي اكتسبتها الاغاني التي ولدت في خضم الحرب خاصة نشيد "الله اكبر فوق كيد المعتدي" ودورها في مساندة الثورة الجزائرية، وفي دعم الثورة اليمنية، وفي التحولات الكبرى التي شهدتها مصر بعد ثورة يوليو إلى درجة ان هذه الاغاني سرت في الوطن العربي كله كما تسري النار في الهشيم نظراُ لواحدية النضال التحرري العربي بزعامة الرئيس الخالد جمال عبدالناصر.وقد لعبت الاذاعة، وخاصة راديو "القاهرة" و"صوت العرب" الدور الأكبر في سرعة انتشار هذا الوعي القومي عبر الاغاني الوطنية التي ينشدها كبار الفنانين امثال : أم كلثوم، وعبدالوهاب، وعبدالحليم، وفريد الاطرش، ووردة،وفائزة أحمد،وفائدة كامل وسواهم بحيث صارت لاتخص مصر وحدها بل تعبيراً عن النهوض العربي العام.أما عندنا في اليمن فقد لعبت اغاني فنانين أمثال : اسكندر ثابت ، ومحمد مرشد ناجي، ومحمد محسن عطروش، وأحمد قاسم، ومحمد سعد عبدالله دوراً معروفاً في التحريض على الثورة ومقاومة الاحتلال، ومواكبتها بعد قيامها، والتغني بها، والتبشير بانتصاراتها القادمة بحيث باتت اغانيهم اناشيد وطنية على كل لسان.والجيل الأكبر سناً يذكر اغانٍي مثل " أخي كبلوني" و"ياظالم ليه الظلم دا كله" و"متى كنا عبيد" ،و"ياشاكي السلاح" ، و"برع يا استعمار" و "يستاهل البرد من ضيع دفاه" وسواها والدور الذي أدته في نضال الشعب اليمني في سبيل الحرية ، والكفاح ضد الاستعمار البريطاني والاستبداد الإمامي.بعد انتصار الثورة ومجيء عهد الحرية والاستقلال اخذت الاغنية الوطنية منحى آخر، وتحولت مع الوقت ولبست ثوباً يضفي قدسية على العهد الجديد أو على افراد بعينهم في السلطة، أو على منجزات هي من صميم واجب الدولة تجاه شعبها فلم تعد تعبر كما كانت في الماضي عن روح الشعب ووجدانه، وبدل ان تكون الاغنية الوطنية كحالة وجدانية تعيش في وعي ووجدان الناس صارت نوعاً من الغناء الباهت الذي يستدعى خلال الاحتفالات الرسمية بالمناسبات الوطنية وتموت بانتهائها .. ولم تعد تعبر عن الحالة التي مثلتها ذات يوم عندما كانت توحي بالحرية والنصر وجزءاً من الكينونة الوطنية والقومية. ماعدا عدد قليل استطاع اصحابها الخروج بها من اطار التوجيه الفوقي وهي تلك الاغاني التي تتغنى باليمن ـ الأرض والانسان بكل مافي حبهما من شوق وعنفوان وألق انساني خالد .. ومثل هذه الاغاني هي التي يكتب لها البقاء والخلود لانها تصلح لكل زمان ومكان وليس لمناسبة محددة بعينها ويمكن الاشارة إلى عدد محدود جداً من الفنانين الذي استطاعوا جس نبض الشارع والتعبير عنه وانتاج اغان ناقدة لبعض سلبيات بعض المراحل .. ولكن هؤلاء منعت اعمالهم تلك من الاذاعة والتلفزيون وسرى المنع على اغانيهم السابقة واللاحقة في وقت كان يفترض فيه ان يتسع صدر الحكومة للنقد البناء الهادف الذي يشير إلى مكامن الخلل هنا وهناك، والتي تؤثر على حياة الناس وهو ما لاينسجم مع المناخ الديمقراطي السائد ففي الوقت الذي اتيح فيه للصحافة قدر كبير من حرية الكلمة والتعبير ، فان هذه الحرية لاتنطبق على اشكال التعبير الاخرى وخاصة الغناء .. وربما يعود السبب إلى ان الاذاعة والتلفزيون اللذين هما اداة التوصيل الوحيدة للاغنية جهازان رسميان تابعان للدولة، ولايمكن لجهاز إعلامي رسمي السماح بهكذا تعبير يشير إلى السلبيات وينقد الاوضاع .. وفي الوقت نفسه لم يسمح حتى الآن بانشاء محطات خاصة للاذاعة والتلفزة رغم انه لايوجد في الدستور والقانون نص يمنع ذلك، وكان ذلك سبباً في وأد نوع من الغناء الناقد الذي كان يمكن لو اتيح له المجال، ان يضفي معنى جديداً على الغناء الوطني ويحرره من طابعه الحماسي او المناسباتي ومن اطره التقليدية التي حبس فيها منذ عقود.