القاهرة / 14 أكتوبر / خالد محمد غازيلا شك أن المقهى اختيار مشروط لكل الفئات، ولكن ثمة نداء غامض يحتويك وأنت في قاهرة المعز أن ترتاد مقهي الأدباء، وتلك الصفة المقترنة بالمقهى مجازية بالطبع، فثمة مخالطة دائمة بين عابرين ومؤسسين، وبالتالي فالويل للغرباء، إذا لم يلتزموا الصمت الضروري في حضرة الشعراء والأدباء·وقد يتضمن النقاش محواً ونفياً وسجالاً للآخر، فهذا ليس بشاعر، وذاك لص، وآخر يفتقر الموهبة، ولا مانع أيضاً من الشجار إذا لزم الأمر، وهكذا تجد نفسك أمام الكتابة الأخرى وقصيدة النثر وإشكاليات الخطاب الحداثي، أو يباغتك الحضور بهذا الصخب لتقارب الطاولات، للاحتفال بصدور ديوان جديد أو ترجمة لكتاب، وسرعان ما تنطلق الصيحات والقهقهات، وتتلاشي النغمات الصادرة من آلة العود، والعازف منكفئ علي آلته، وهو ينظر باتجاه الوجوه المحتقنة، ثم يعاود عزفه من جديد·مقدمة لابد منها حيث ارتبط المقهى بالثقافة والإبداع منذ أزمنة بعيدة، وصوت الراوي البدائي يصدح بالنشيد، والجمهور ينصت إليه في حلقة دائرية حول نار مشتعلة، وفي أمسيات باردة وأخري شديدة القيظ، وإما أن يتململ الجمهور وينقض ضرباً علي الراوي، وإما أن يدعوه ليبيت ليلة أخري، وشرط البقاء هو جسارة الاجتراح، والإتيان بالمغاير عبر شذرات من حكاية خرافية لا تنتهي، ومن عصرإلي عصر، تطور الشكل البدائي للتجمعات الإبداعية، إلي أماكن تسمي بالمقاهي أو بالمنتديات الثقافية، والمقاهي تحوي طاولات متراصة بين فراغات متساوية، ويتصاعد اللغط الدائر بين المتحلقين، ليتقاطع مع سحب الدخان المنبعثة من النراجيل (الشيش) ولفافات التبغ، وفي القاهرة وحدها ذكريات لدفء إنساني وميلاد إبداع مغاير لأسماء عديدة مثل: المازني والعقاد، ويوسف إدريس ويحيي حقي ونجيب محفوظ وأمل دنقل ونجيب سرور ويحيي الطاهر عبد الله وغيرهم·ولا يدري أحد ما سر تلك الجسور الممتدة بين أتيليه القاهرة - الملتقي الرسمي للأدباء والفنانين - وبين تلك المقهى القريبة منه، فثمة خطوط متقاطعة للأدباء تقضي بهم إلي (زهرة البستان) و(الجروين) فالجلسات التي تبدأ في الأتيلييه سرعان ما تنتهي ليرحل بعض الجالسين إلي مقهى قريب·والطريف أن بعض المقاهي أعلن استقلاله عن الرواد العموميين، وعلق لافتة مذيلة بعبارة (ملتقي الأدباء والفنانين) وهناك مقاهى اشتهرت بروادها من الأدباء والمثقفين، مثل (علي بابا - ريش - زهرة البستان - الفيشاوي) والتي شهدت العديد من المناقشات والجلسات الدافئة، وأخري ليست علي ما يرام·ومن المؤكد أن شهرة بعض المقاهي اقترنت بروادها من الأدباء مثل مقهى (علي بابا) في وسط القاهرة، الذي اعتاد الكاتب الكبير نجيب محفوظ أن يرتاده في الصباح الباكر، ويجلس في طابقه العلوي متأملاً الميدان الفسيح من النافذة، وهو يرشف قهوته، أو يطالع جرائد الصباح، ليزداد المقهى شهرة وحركة، بعد أن حصل محفوظ علي نوبل، ليتسلل إليه (الفضوليون) في انتظار رؤية أديبهم الكبير، الذي يبادلهم التحية، وترتسم علي وجهه ابتسامته المعهودة·· وقد كان “ محفوظ” يرتاد قبل ذلك مقاهي عديدة مثل الفيشاوي وكازينو الأوبرا وريش، أما خارج القاهرة وتحديداً في مدينة الإسكندرية فكانت جلسته الأدبية في مقهى بترو أوتريان ون، حيث تتحول الجلسة إلي ندوة ثقافية وغالباً ما تضم أصدقاءه من جماعة (الحرافيش) والتي مازالت تربط بينهما الصداقة واللقاءات الأسبوعية حتى هذا اليوم·اللقاء الأوليقول الناقد محمود أمين العالم إن لقاءه الأول بمحفوظ كان في أواخر الخمسينات، وذلك في جلسته الأسبوعية بكازينو الأوبرا، لتمتد صداقتهما منذ هذا اللقاء، ولتربطهما وشائج إنسانية لأكثر من ربع قرن·ويذكر أيضاً الروائي إبراهيم عبد الحميد أن لقاءه الأول بمحفوظ كان بمقهى (بترو) في الإسكندرية، وأنه انجذب لحديث محفوظ وسائر الأدباء المتحلقين حوله، ثم دفعه النداء ليمضي وراء محفوظ في المقاهي القاهرية ودائماً سماكان يجلس صامتاً، وهو يراقب الرجل في حديثه وصمته، دون أن يتكلم أو يشارك في الحوار·ويحضر المقهى كمكان لدراما حية ومتفجرة بالمأساة والكوميديا في آن واحد، وقد شهد العديد من المواقف، وكتب فيه الشعراء والأدباء إبداعاتهم، ومنهم الشاعر الراحل نجيب سرور الذي استوحي قصائد ديوانه (بروتوكولات حكماء ريش) من أجواء المقهى الريشي، وطرح إحباط عصر عاشه من خلال تمركز المثقفين وثرثرتهم الدائمة في أعقاب هزيمة حزيران 1967·وبعد سنوات طويلة وعلي مقربة من مقهى ريش، كان الأدباء والمثقفون يتوافدون علي مقهى البستان في ليلة باردة، بعد أن تحول المقهى لسرادق عزاء لفقد القاص النوبي الشاب إبراهيم فهمي، الذي ارتبط بهذا المقهى سنوات عديدة، وأصبح جزءاً منه حتي أنه كتب قصة تحت عنوان (من دفتر البستان)·ومن مقهى (ريش) انطلقت فكرة مجلة (جاليري 68) التي أسسها مجموعة من المثقفين بعد نكسة 1967، ليقدموا إبداعاً مغايراً من خلال نصوص جميل عطية إبراهيم، وسيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودي وإبراهيم منصور وإدوار الخراط وإبراهيم فتحي وآخرين·ذكريات شمسولو عدنا إلي الوراء لوجدنا العديد من الذكريات التي تجسدت علي مسرح (المقهى) وهو ما يقوله عبد المنعم شمسي في كتابه (شخصيات مصرية)، كانت فترة السهرة عند د· زكي مبارك تبدأ من منتصف الليل، وكان مكانها مقهى صغير في ميدان التوفيقية صيفا علي الرصيف وشتاءاً داخل المقهى، منضدة محجوزة دائماً للدكاترة ومعظم المقاعد لأصدقائه ومريديه من الأدباء والمتأدبين والهواة·ويضيف شمس: >كان زكي مبارك يكتب مقالاته الشهيرة (الحديث ذو الشجون) علي هذه المنضدة الرخامية ذات القاعدة الحديدية، يكتب علي أوراق يجدها بين يديه وعندما يكتب بقلم (الكوبيا) الشهير الذي كان يحتفظ به في جيبه الأعلى، كان الصمت يسود حتي يعود القلم إلي مكانه وتندس الورقة في جيب الدكتور، ثم تبدأ الحلبة مرة أخري·غياب التواصلورغم التحولات التي طرأت علي شكل لقاءات الأدباء، فإن المقهى لا يزال بحضوره الخاص، قيمة وضرورة ليشعر المبدع بحريته الكاملة وسط الناس، دون التقولب داخل الصالونات الباردة·ويطالب الشاعر محمد أبو دومة بضرورة توفير مقاهي ثقافية لهذا العدد الهائل من الأدباء الشباب، فقد كان المبدع الشاب في الأزمنة الماضية، يبحث عن أديب كبير يتعلم منه، والآن لا يحدث هذا، أما الآن فكل شاعر يضع نفسه فوق هامة المتنبي، وأصبح عادياً أن نسمع شاباً ينفي الشعرية عن شوقي أو نزار، وذلك لغياب التواصل الحميم بين الأجيال، وقد رأي القائمون علي معرض القاهرة للكتاب، ابتداع شكل المخيمات الثقافية، التي يتواصل فيها جمهور المعرض مع أشكال إبداعية عديدة، ومن بينها المقهى الثقافي الذي يلتقي فيه الرواد بتنويعات إبداعية وأدباء من رموز الحركة الثقافية، ويتواصل بينهم النقاش حول العديد من القضايا الفكرية والأدبية·وفي رأي الناقدة فريدة النقاش أنه ما تزال بعض المقاهي موجودة، وتمارس دورها، ولكنه دور هامشي لأن الدور الرئيسي انتقل للأماكن المخصصة الأخرى مثل المكتبات العامة والأحزاب السياسية التي تعقد منتديات ثقافية، وكان من الضروري أن تنزوي أهمية المقاهي·ويتفق بعض المثقفين في أن المقاهي مركزاً المعايشة الهم الجماعي والتواصل بين مختلف الأجيال المبدعة بينما يري البعض الآخران التطورات الهائلة في السنوات الأخيرة من هذا القرن، قد تدفع إلي زوال هذا الشكل للتلاقي بين المثقفين في القرن القادم، فهل يصمد المقهى أمام التحولات، أم يصبح كلمة تراثية مثل الخان والخانقات والسبيل؟