يوسف الديني عقد بمدينة إشبيلية المؤتمر الثاني للأئمة من المسلمين ورجال الدين اليهود من أجل السلام، وكان هذا اللقاء مفاجئاً جداً على مستوى الحوار الشخصي بين أفراده بشكل غير مسبوق في مثل هذه المؤتمرات التي تأتي في غالبها ضمن إطار الدبلوماسية الرخوة التي تحاول أن تقفز على الواقع المعقد بمجاملات من الطرفين. اللافت في هذا المؤتمر ووفقاً لتقرير لوكالة الأنباء الفرنسية أن مستوى الحديث عن الواقع كان عالياً وشفيفاً للحد الذي وصلت فيه صراحة إمام فلسطيني شارك في مجموعة عمل »شعبان وأرض مشتركة« إلى درجة فاجأت الحضور حيث قال بالحرف الواحد !اننا جائعون في غزة. أطلب من الحاخامين التحدث عن السلام مثلما أفعل كل يوم جمعة في مسجدي. وفي المطعم المخصص للمشاركين، اقترب الحاخام الأميركي جوزف ايرنكرانز من الناطق باسم هيئة العلماء الفلسطينيينعبد الرحمن عباد، وقال له: أفهم معاناتكم، فأجابه عباد: ليس لديك أي تصور عنها ثم تعانقا. من جانبه كان المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة »الإيسسكو« عبد العزيز عثمان التويجري: واقعياً حين صرح بقوله لا يمكننا تسوية مشكلات العالم في مؤتمرين«، بغض النظر عما يشوب مثل هذه المؤتمرات من السلبيات الكثيرة فإن ما لفت نظري هو كمية الحديث عن »المستقبل« هذا المارد المجهول.. فلا شك أنه كلما ازدادت الحياة تعقيداً وعنتاً وتغيرت مجرياتها نحو الأسوأ على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ عظم خوف الإنسان من المستقبل وتقلصت آماله الممتدة بامتداد الأمنيات الحالمة لتصبح مجرد محاولات يائسة لضمان العيش بسلام. تلك الرهبة من المستقبل المجهول لها ما يبررها بشرط أن ترتبط باستراتيجيات فاعلة للتحول إلى المستقبل والعيش في آفاقه الرحبة والوقوف على أرضيته كمؤثر فيه منتج لأحداثه ولا أقل من السعي لذلك لتحقيقه على أرض الواقع عبر خطوات واثبة تسعى للأخذ بأسباب التغيير دون الاكتفاء برسم لوحة جذابة لشخصه. ثمة حقيقة تترسخ على أرض الواقع يوماً بعد يوم وهو أهمية دور »الظاهرة الإسلامية« ممثلة في التيارات الإسلامية والعلماء والدعاة والمصلحين والجمعيات الخيرية في العالم الإسلامي، باعتبارها الأقدر على التأثير لما تمتلكه من قاعدة شعبية كبيرة ورصيد ممتلئ بالنجاحات الكبيرة في قضايا الإصلاح والسلوك الاجتماعي والتربية.. الخ. لكن التأمل في منجزها يؤكد حقيقة أخرى لا تقل عن أختها وهي أن هناك بوناً شاسعاً وفجوة كبيرة بين النظرية والتطبيق لدى الظاهرة الإسلامية في ما يتعلق بالمستقبل وكيفية التأثير فيه. وبعيداً عن تلمس الأسباب الخارجية التي يكثر الحديث عنها مع أنها تمثل نسبة قليلة مقارنة بالأسباب الداخلية المتعلقة ببنية الظاهرة الفكرية وتمظهراتها على أرض الواقع، فإن الحديث عن الأسباب الداخلية يبقى الأنفع والأكثر عملية لا سيما أنه يرتبط بالمفهوم القرآني في مثل هذه الحالة »قل هو من عند أنفسكم«. وفي اعتقادي أن أكبر الأسباب في خلق هذه الفجوة هو غياب التفكير الاستراتيجي للعقل المسلم في التعامل مع المستقبل بواقعية من خلال إعادة تشكيل أنماط التفكير وآليات العمل والفعل، إضافة إلى الوعي بالأولويات التي تأتي في أول القائمة من مثل التحديات المتعلقة بالتحولات السكانية ومواد الطاقة الإنتاجية والنمو الاقتصادي ومسائل الإسكان والتعليم والصحة مما يدخل تحت مسمى التنمية. ولا شك أن نحت مثل هذه العقلية وتشكيل ملامحها مبني على حقيقة لا تبدو واضحة لدى الكثير ممن يسعون للتغيير والإصلاح، لأنهم يظنون واهمين أنهم إزاء نموذج للتعامل مع المستقبل والتنمية معد سلفاً، أو يمكن استحضاره من تاريخنا وتراثنا جملة وتفصيلاً، حتى تلك التفاصيل الدقيقة التي أفرزها الواقع المتجدد وأن ليس علينا سوى الاجتهاد في التطبيق والامتثال...! والمؤسف اعتبار أي نظرة عداء هذه على أنها اتهام للإسلام بأنه غير صالح لكل زمان ومكان، وزعم أنه لا يمتلك الحل.! ولا ريب أن هذا خلل كبير في الفهم وتبسيط متناه للمسألة. وهو من جهة أخرى مبني على عدم الوعي بطبيعة الوحي وخصائص الشريعة الإسلامية وأن سر تميزها يكمن في كونها مطلقة غير محدودة الزمان فهي تعنى برسم المبادئ والكليات والقواعد التي تكفل صلاح الفرد والمجتمع في أمر دينه ودنياه. هل يمكن للعقل المسلم أن يخرج من قمقمه وهو يصر على أن يستلهم صباح مساء في تفكيره ونظرته لمن حوله تلك المقولة التي تمثلها زمان الضعف والذبول الحضاري التي عبر عنها الإمام الطرطوشي بقوله »ذهب صفو الزمان وبقي كدره«.. ما سبق حديث عن الطرف الذي يعنيني أمره بالدرجة الأولى وهو »الخطاب الإسلامي« الذي يتسيد المشهد العربي والإسلامي. ومن دون إصلاح حقيقي لهذا الخطاب فسنظل نحرث في الريح ..! نقلا عن صحيفة / (( الشرق الاوسط))
جائعون .. لا تطعمهم الآيديولوجيا !
أخبار متعلقة