ظل الصراع دوما واحدة من خصائص الجنس البشري، والحرب كما هو معلوم هي أقدم مهنة في التاريخ، ومهما كان الجانب الذي وقف فيه هذا الطرف أو ذاك فإنه الطرف الذي توجد فيه العدالة والحرية والمقاومة والقيم النبيلة، أما الصفات المضادة جميعها فهي تخص الطرف الآخر. وفي أحيان كثيرة فإن الأفكار والأديان حاولت التخلص من هذه الحالة التعسة، ولكن ما حدث هو أن الأفكار والأديان أصبحت هي الأخرى أطرافا في معارك وحروب جديدة أكثر شراسة وأشد قسوة. ولذلك ظهرت المدرسة الواقعية إلي الوجود، فالصراع، والقتل في الحقيقة هو جزء من الطبيعة البشرية، مثله مثل الجنس والبحث عن الثروة والسعي من أجل السيطرة. ولذلك فإن القضية ليست هي القضاء علي ما هو طبيعي وإنما تنظيم هذه الحالة بما يجعلها أقل قسوة وصعوبة، فكان الزواج بدلا من الجنس الفوضوي، كما كانت الضرائب وسيلة لتنظيم جمع المال وتوزيعه، وكانت البرلمانات قيدا على السلطة القاهرة، وهكذا. تعددت سبل البحث عن وسائل تقييد العنف، وكان واحدا من المخترعات العربية العظمي أن القبائل العربية التي لا تكف عن الصراع على الكلأ والمرعى والجمال قررت أن تمتنع عن القتال لمدة ثلاثة شهور عرفت بالأشهر الحرم وبالتالي تم إنقاص فترات القتل المسموح بمقدار الربع تقريبا، وكان ذلك فكرة عبقرية حيث كانت فرصة للتجارة، وفرصة للاستعداد، وفرصة لكي تنجح القبائل في التكاثر. ولكن دولا أخري رأت أن الزمن ليس هو الوسيلة الوحيدة لتقليل الصراع، وإنما المكان أيضا، فمن الممكن اعتبار مساحات جغرافية بعينها محرمة على القتال فولدت الدول المحايدة وأشهرها سويسرا التي بقيت علي الحياد دون حرب بينما أوروبا كلها تحترق خلال الحربين العالميتين الأولي والثانية. وبشكل ما فإن المناطق المنزوعة السلاح ـ كتلك الواقعة في سيناء ـ هي واحدة من وسائل تقييد الصراع عن طريق تقييد التسلح في منطقة بعينها. وفي كل الحالات فإن "المناطق المحرمة" مثلها مثل الأشهر الحرم كان هدفها تحقيق منافع للمتحاربين، ومنها إعطاء فرصة للسلام أو تحقيق الأهداف بوسائل سلمية، ومنها إعطاء مكان للتجسس المتبادل، ومنها عزل المتقاتلين لفترة تهدا فيها الأعصاب. وبالطبع فإن هدف هذا المقال ليس تقديم محاضرة في وسائل تقييد الصراع، وإنما الهدف هو تقديم اقتراح يخص الإخوة في العراق وهو اعتبار مدينة بغداد مدينة محرمة علي القتال من قبل جميع الفرقاء. فبغداد ليس فقط هي العاصمة العراقية، وفيها يوجد مزيج عرقي فريد، وإنما أيضا لها ميزة رمزية حضارية تخص فترة الخلافة العباسية المزدهرة، وهي فوق ذلك كله توجد في وسط العراق لكي يشاهدها الجميع، فازدهارها وتعميرها، كما حدث لوسط بيروت ربما يشجع الفرقاء المتحاربين علي الإقتداء ويخلق بينهم ساحة للحوار والنقاش السياسي في ساحة آمنة. وحتى هذه اللحظة فإن بغداد قد انتهت كمدينة ولم يبق فيها إلا ما هو معروف بالمنطقة الخضراء التي تتركز فيها السلطة والقيادة الأمريكية، وما بعدها لا يبقي إلا العنف والخراب. ربما تكون بداية الغيث انسحابا أمريكيا من بغداد وتسليمها فقط لقوات الشرطة العراقية مع العون اللازم من دول عربية وإسلامية، وبعد ذلك يمتنع الجميع، قوات الاحتلال وقوات المقاومة، قوات الموالاة وقوات الممانعة، عن استخدام بغداد ساحة للعنف والصدام. وفي هذه الحالة فقط فإن بغداد العاصمة سوف تبدأ في أن تكون عاصمة بالفعل، وعندما يتم تنظيف الشوارع والأحياء المختلفة من مخلفات الحرب، وعندما تتم عودة الحياة المدنية، وعندما تدب الحياة في الأوصال، وعندما تتواصل الجماعات والفرق مرة أخرى، فإن بغداد سوف تقدم نموذجا مختلفا يقوم على الجمال بدلا من القبح، وعلى السلام بدلا من الحرب، وعلي الأمل بدلا من الإحباط، والبسمة بدلا من الدمعة. كل ذلك ممكن، ولا يمنع تحقيقه إلا نوعان من المقاومة؛ أولهما يأتي من الذين يعتقدون بإمكانية حل الأزمة العراقية كلها مرة واحدة بالانتصار في الحرب من هذا الطرف أو ذاك، أو حتى من خلال حلول سياسية ودبلوماسية شاملة، وبالتالي فإن بغداد لا تزيد عن كونها بعضا من مشكلة وليست المشكلة كلها، وعندما تحل أزمة العراق فإن أزمة العاصمة سوف تنحل من تلقاء نفسها. وثانيهما يأتي من جماعات الممانعة الإسلامية الراديكالية التابعة للسيد أبو مصعب الزرقاوي وتابعيه، فهؤلاء لا يظنون خيرا كثيرا علي مثل هذه الخطوات الجزئية البسيطة في معناها والكبيرة في تأثيرها. في الظن أنه من الممكن التغلب على الاعتراضين، فتطور الأحداث، وطول مدة الصراع، وتكاليفه الباهظة سوف تدفع في اتجاه البحث عن خطوات جزئية وبسيطة بدلا من الحلول الشاملة والمعقدة. وهكذا فإن الواقعية سوف تدخل في حسابات الباحثين عن حلول شاملة، ولكن مثل هذه الواقعية مستحيلة مع الإسلام الراديكالي العنيف الذي يبحث عن الفرصة العنيفة أنى وجدها، ومهمته هي تحويل المناطق الهادئة والمسالمة إلى مناطق يغطيها الدم والنار والدخان وليس العكس، وطالما أن بغداد مشتعلة بالفعل فإن المهمة هي إبقاء اشتعالها. ولكن لا ينبغي اليأس من رحمة الله التي قد تأتي من خلال وسائل الإعلام التي لو ألحت علي بقاء بغداد مدينة آمنة فربما لا يحب الزرقاويون رفض مطالب النظارة في الصحف والمحطات التليفزيونية. وبالتأكيد فإن كل مراسلي الصحف والمحطات يريدون منطقة آمنة!!.* نقلاً عن / صحيفة ( الاهرام ) المصرية
بغداد مدينة مُحرّمة!
أخبار متعلقة