نجيب مقبل.. و(حضرميات) باكدادة!!
عندما أسمعني الشاعر : عبدالله با كدادة في أحد لقاءاتنا قصيدة غنائية وأظنها قصيدة (غناء.. في الوادي) قفزت قفزة إعجاب ربما جاوزت حالات ردود الأفعال الطبيعية التي طالما كنت أبديها معجباً بالقصيدة أو مثنياً ومثمناً مقاطع أو جملة أو صورة فيها وربما اختلط الإعجاب باستفسار أو محاولة طلب مراجعة أو تعديل تعودناها بأريحية متبادلة وباستحياء جم.كانت قفزة الإعجاب هذه تشبه في صورتها ما أصاب (أرشميدس) بالقول : وجدتها.. وجدتها..قال الشاعر : عبدالله باكدادة.. هذه قصيدة ضمن مجموعة من قصائد كتبتها في الثمانينات من وحي زيارة لوادي دوعن بحضرموت. كان يجيب عليّ وكأنه يرد على حرارة الإعجاب.. أو كأنه يرد على نفسه : لماذا أهملت هذه القصائد؟ ولماذا تصارع داخلي على تركها كل هذا الزمن دون إدراجها في منظومة الكتابات الغنائية ودون إذاعتها على الزملاء المقربين؟.. فما بالكم إعطاؤها الفنانين للغناء.أعتقد أن قفزة الإعجاب.. وحرارة استقبالي لها ولدت كل هذه الأسئلة في الشاعر. أما أنا فكانت لي أسبابي في التعبير عن شدة الإعجاب، وأظن مقولة : وجدتها.. وجدتها يفسرها التالي من القول :كنا في حوارات سابقة تجمعني بالشاعر باكدادة وبعدد من الشعراء الغنائيين والفنانين والأدباء والمثقفين نتحدث ونتساءل :- لماذا الأزمة الحالية في الغناء اليمني المعاصر؟وحين يصل الحديث إلى أزمة النص الغنائي.. كان رأيي ويشاطرني الشاعر باكدادة في الكثير من مثل هذه الآراء بأن الشعر الغنائي أفتقد نبض وروح الحياة.. وأن معظم نصوص الغناء الحالية هي نظم كثر فيه التأوه والشكوى ووصف اللوعة والحسرة بلغة إنشائية ليس فيها حرارة الحياة ووقع أو إندماج الطبيعة، أنها قصائد تخلو من الصور الشعرية والرمز المتخيل المبدع.. وهي أمور أو إشتغالات اجترح طريقها رواد في الشعرالغنائي المعاصر منذ الخمسينات أمثال : محمد عبده غانم، محمد علي لقمان، عبدالله هادي سبيت، لطفي جعفر أمان، صالح نصيب وآخرون.ومن ضمن الأمثلة التي كنت أطرحها عن بعض الشعراء الغنائيين والذين لهم جذور من الريف والقرية، أنهم يأتون إلى المدينة - عدن - محملين بمخزون كبير من الصور الشعرية الفطرية، والأمثال الشعبية، والحكم ومن روح البداهة والفطرة والسليقة.. والتعامل مع البيئة الريفية والبدوية بروح شعرية تنتمي إلى جو الشفافية وحرارة نبض القول وفطريته.. ولكن ما أن يمر زمن إلا وتأخذهم المدينة وآليتها وتجدهم يسيرون في ركاب النظم الإنشائي لحالات التأوه والحسرة واللوعة، مفتقدين أهم ميزة كانوا يحملونها : الفطرة في التناول، نبض الحياة الحار في القصيدة.. البساطة في الكلمات والأقوال، التضمين من مخزون الذاكرة من أقوال وأمثال وحكم شعبية.في خضم هذه النقاشات حول أزمة الغناء اليمني.. وأزمة النص الغنائي الحديث.. وأزمة الشاعر الغنائي الذي أكسبته المدينة حجارة رصيف جامد من الأقوال والصيغ الإنشائية للتأوه والشكوى والهجران المتداولة في شارع الغناء اليمني، وربما الغناء العربي، كانت آراؤنا أنا وعبدالله باكدادة متوافقة في ضرورة البحث عن نص بديل يواصل أرقى وأجمل ما كتبه الرواد ويحمل شعلة التجديد التي اتقدت وتحتاج لزيت الشاعرية الأصيل وكان سماعي لقصائد عبدالله باكدادة الحضرمية حدثاً رأيت فيه توافقاً كبيراً مع البحث الدؤوب على شعر حار النبض، فطري القول متواتر الإنفعال، أشياؤه من الطبيعة، ويتكلم بلغة الشاعر وليس كلام الإنشاء. ومن هنا تأتي ترجمة المقولة : وجدتها.. وجدتها.. على البدايات الحضرمية للباكدادة.ما شدني حين سماعي أولى القصائد الحضرمية أنها تنتمي إلى هذا العالم المنشود في النص الغنائي المليء بالحرارة، والفطرية، والحياة على بساطتها.رأيت في هذه القصائد النبض الحار في اللغة والموضوع وإقتناص الصور الشعرية من الطبيعة والحياة والثقافة الشعبية الفطرية، ورأيت تعانقاً بين الفرد ومنظومة الحياة بحيث تصير حالة الفرد جزءاً من تعبيرات الواقع والبيئة :[c1]رأيت إمتزاج الحكمة والمثل السائر مع الحاجات العاطفية التي يتوسلها الشاعر :[/c](غناء في الوادي)على أن هذا التصور النظري في البدايات الحضرمية للشاعر، والدهشة التي أوقعتها نصوص هذه البدايات بما احتوته من فطرة وسلاسة في الصياغة، ومن أفكار وتعابير هي من وحي البيئة البدوية وحكمها وأمثالها وثقافتها الشفاهية، كل ذلك لا يلهينا عن المكنونات التعبيرية والعاطفية لمجمل قصائد الديوان والتي نرى أنها في غالبيتها طورت هذا النمط الحضرمي وجسدت نضوجاً فكرياً وتنوعاً في آفاق معالجته الشعرية وانفتاحاً في الكتابة الشعرية على تجارب جديدة لها ألوانها وسماتها وربما معالجاتها الأخرى النابعة من أجواء المدينة ومن تلاوين البحر والشواطئ والفل والكادي والقمر والطير وصور [c1]الطبيعة والحياة :[/c]فكانت القصيدة بقدر ما هي دفقة شعرية متدافعة بنفس واحد هي سجاد مطرز بالصور الشعرية المعبرة عن منازل الحالات والمواضيع لشاعر متلهف :يا حاضنة موج البحاروفي عيونك قد سما سحرهيا آمنه.. وباعثه أمنك على كل الديارالطير في عشه أطمأنوفي السما رفرف جناحه وانتشى قدرهوالشط ساكب في شفاهك بسمت ) (أول الغيثإنها قصيدة أنموذج للمجاز الشعري العاطفي الذي قلما يستقر عند كتابة الأغنية ومثاله في الغناء اليمني ضئيل ولكن ما سلكه من شعراء الغناء سلك بالنص الغنائي درباً أشد ما تحتاجه ذائقتنا الغنائية :ومهما جافاك الزمانوضيع الخطو المكانلابد للأزهار تحيي وعدها مطرهوأول الغيث قطرة ) (أول الغيث هكذا تصبح القصيدة حالة استحضار دائبة لأجمل وأروع ما في الطبيعي وتردفه بالمحبوب، لتعكس حالة الشاعر العاشق بأسمى الصور وأرقى الجمل والتعابير.ومن هذه الأمثلة وغيرها نرى أن الشاعر قد أعطى نصه الدفقة التي تسمو به عن سائد الكتابة الغنائية المهملة لشعريته وتتكى على أقوال نمطية جاهزة عن الحب واللوعة والحسرة، وهذا ما أعطى نصه ثقافة توازي في الدرجة مقدار العاطفة، بحيث لا يبدو هذا المنطوق الثقافي آتياً من خارج اللهجة التي يكتب بها أو الحالة التي يعايشها. ومن هنا أرى أن الشاعر عبدالله باكدادة من الشعراء الغنائيين الذين يؤمنون بضرورة ارتقاء اللهجة إلى مصاف اللغة الفصحى في التصوير والشاعرية، وهو بذلك يردم الفجوة التي ظل يعاني منها كتاب الفصحى بغياب التواصل مع القارئ.وبهذا المنظور، فإن جهد الشاعر في تثقيف اللهجة والإرتقاء بها إلى مشارف الفصحى يأتي داخلياً من النص ومكوناته اللغوية والعاطفية والجمالية وليس مفتعلاً بقرار من الشاعر والمثقف الفصيح.ولذلك فإن النسق اللغوي في كتابة لهجة النص يأتي طبيعياً ويتوافق مع مكونات نصه بحيث أننا لا نشعر كيف أنسل من جبة المثقف والشاعر الفصيح الذي تنازعه إلى تجربة كتابة النص الغنائي المكتوب باللهجة العامية اشتغالات شعرية وكتابات إبداعية باللغة الفصحى أداته الأساسية في الكتابة والإبداع.هذا الجهد يأتي باختيار دقيق لأرقى ما في اللهجة من ألفاظ، وبانتزاع أجمل الصور الشعرية التي تغني الحالة العاطفية، وبمخاطبة وجدان وعقل القارئ بالصور المجازية والتخيلات الشعرية أي بالمحاولة الجادة في النطق بالشعر لا بالكلام، وبالدأب على مخاطبة الآخر والتعامل معه ضمن نسق عاطفي واجتماعي وإنساني يجعل المرأة مكوناً أساسياً من مكونات الحياة وجماليتها، ومصوغاً للعيش فيها - الحياة - بكرامة ونبل وتكامل في الأخذ والعطاء.. وهذا نهج فكري وأدبي دأب الشاعر على اختطاطه في كل نصوصه، وهو موضوع ليس المجال هنا مقاماً للوقوف مطولاً على مفردات هذا النهج ونتركه للقارئ يكتشفها من بين ثنايا هذا الديوان ونصوص الشاعر الأخرى.