الوحدة اليمنية في التراث الفكري للحركة الوطنية
في عام 1948م كانت اليمن حبلى بالثورة.وانفجرت الثورة ذات يوم دام مشهود..وكان على رأس الثورة طليعة الواعين من أبناء الطبقة الوسطى، والمستفيدين من الوضع الجديد،.علماء وأدباء وملاكاً كباراً وأصحاب رؤوس أموال.. وحكمت الثورة 12 يوماً قلقاً ومضطرباً..وفجأة مادت الأرض من تحتها وتضعضعت عزائم رجالها.تحالفت عليها قوى الرجعية والخيانة..ومن هنا وهناك زحفت جيوش الشر والوحشية لتخمد أنفاس الثورة وتجتاح المقدسات، وتسرق النبض من قلوب الأحرار.وصعد الإمام الجديد على العرش، على أسنة حراب القبائل.[c1]عيد..[/c]وكان عيد.. عيد “النصر” وكان المصير الذي انتهى إليه قادة الثورة مصيراً شاحباً محزناً كئيباً.. رؤوس تتهاوى كأوراق الخريف في ظلال السيوف.. وقلوب تشل في غمرة أعياد الدم.وفي نشوة النصر، نصر الطاغية انفتح “باستيل” حجة ليتلقف الأحرار الثائرين وكل من طافت في ذهنه أحلام “الدستور”، وكل من خالج نفسه الأمل في أن يكون لبلاده دستور.. وبرلمان. وعدت كلمة دستور جريمة. وغدا “المدستر” إنساناً مارقاً خرق شرائع الأرض والسماء.وهام الذين افلتوا من سوط الجلاد على وجوههم لا يلوون على شيء.. ومرة أخرى.. سقط ليل الطغيان على أرض اليمن ثقيلاً كثيفاً مدمراً. وستمضي سبع سنوات عجاف قبل أن ينفرج منفذ صغير للنور ويتسرب خيط رفيع من الفجر خلال الظلم المتراكمة.. قبل أن تتفجر الثورة الثانية.[c1]إشارة البدء[/c]فشلت الثورة الأولى.. إذن.. دون أن تحقق غرضاً واحداً من أغراضها.وانطوى عهد مجيد من عهود كفاح “الأحرار” في سبيل الدستور فكيف فشلت؟لقد استعجل “الأحرار” الثورة وأجهض الجنين الثوري قبل أن يكتمل نموه في رحم الأم الحامل.ذهب “ الأحرار” إلى اليمن على نداء الدم المسفوح، دم الإمام السابق الذي قتل غيلة.كان هذا الدم هو الشرارة الأولى التي مزقت قلب الظلام، واندلعت بعدها الثورة.. وهو أيضاً إشارة البدء التي تنادى على أثرها “الأحرار” في الداخل والخارج لمواجهة الموقف الجديد.وأنا لا أدافع عن مقتل الإمام.. ولا أذرف دمعة واحدة على ذهاب فرد كان يختلس حياة شعب ويقتل الملايين قتلاً بطيئاً حسب خطة مرسومة، ونهج منظم. ولكن الاغتيال لا يصلح أن يكون نذير الثورة ومشعلها.إن الاغتيال لا يفضي إلى شيء بل يكون له دائماً أثر عكسي.[c1]القاتل الشهيد[/c]وفي ثورة اليمن.. عمل الاغتيال ضد الثورة. فقد استثار عطف الكثيرين على الإمام القتيل وأظهره - في عيونهم - بمظهر الشهيد.والويل للشعب عندما يصنع من الطاغية ملاكاً.. ومن القاتل الحقيقي شهيداً.[c1]المد الثوري[/c]كان لابد “للأحرار” أن ينتظروا حتى تنشأ أزمة شاملة طاحنة تسحق بعجلة الرعب قلوب الطغاة.. أو يسعوا هم إلى خلقها ثم يعملوا على استغلالها.. أزمة عامة تقطع كل خيط من الأمل بين الشعب والطاغية.. كهذه الأزمة التي تعيشها اليمن اليوم بعد لجوء الأستاذ نعمان إلى مصر.وكان لابد ان يسبق الثورة “دعاية” ثورية على نطاق واسع تتغلغل في صفوف المضطهدين والمعذبين حتى يصل “المد الثوري” إلى الجماهير ويغسل قلوبها من أدران الكهانة وسموم الرجعية والغيبيات، ويفتح عيونها على واقعها الرهيب.[c1]الثورة لا تصدر[/c]ولكن “الأحرار” - كما قلت - تعجلوا الثورة.ولم يفكروا في أي “احتياطي” جماهيري.واكتفوا بأن أعطوا إشارة البدء من هنا.. من بعيد.. بماذا؟ بحادث - اغتيال.. ومن هنا.. من عدن.. انطلق قادة “الأحرار” إلى مكان الانفجار، وكأنما أرادوا أن ينقلوا الثورة في طيات ثيابهم ويصدرونها إلى اليمن.وهناك انفجرت في وجوههم.فالثورة لا تنقل ولا تصدر.. ولا تحمل على الألسنة والأكتاف. إنها تنفجر في أرضها وعندما تشاء الجماهير.حقاً لقد كانت أرض اليمن وقتذاك تنطوي على بذور الثورة وتغرس جذورها في الأعماق.وإلا لما قلنا بحتمية الثورة ولما دعونا إليها - ولكن “الأحرار” لم يحاولوا أن يفجروا الثورة داخل أرضها الحقيقية وفي منبعها الأصيل.. هناك في اليمن، وفي جو من أزمة عامة ساحقة.. وفي وقتها المناسب.. ومن هنا فشلت الثورة.. وهذا سبب واحد فقط من أسباب فشلها.[c1]أخطاء الثورة[/c]وسبب آخر..كانت قيادة “الثورة” ضعيفة متخاذلة..ومنذ اللحظة الأولى ذهبت القيادة تتخبط وتحترب مع نفسها.ولم يكن بين الجميع تفاهم كامل.. ولم يكن الكثيرون منهم من طراز ثوري، وغاص الجميع تحت مستوى الحدث الثوري القائم. وأكثر من هذا.. في فجر الثورة فاجأت القيادة الناس بإمام جديد ينحدر من أصل الطبقة الحاكمة الإقطاعية.. وتشكيل وزاري جاهز..وسأل الكثيرون أنفسهم :أكان لابد من إمام؟ أكان لابد أن يكون “زيد” الرأسمالي وزيراً أو “عمرو” الرجعي عضواً في الحكومة الجديدة؟أمن أجل هذا يريدون من الشعب أن يضحي.. ويثور؟ أمن أجل هذا يريدون من الأحرار الواعين أن يموتوا؟إن الشعب يريد أهدافاً عزيزة كبيرة يثور من أجلها.. ويواجه أسوأ النتائج والاحتمالات في إصرار وعناد.وإذا كان “الدستور” هو الهدف فينبغي أن يكون وراءه رجال كبار يفرضون احترامهم على الشعب ويتعلق بهم حباً وتقديساً.وباختصار.. كانت الحركة كلها ينقصها عنصر التنظيم والمبادرة.. ويعوزها “التكتيك” الثوري.وكانت معظم “وجوه” الثورة لرجال صغار الموقف، ولا يستطيعون أن ينهضوا بأعباء القيادة الشعبية.[c1]هزات عنيفة[/c]على أن هذه الأخطاء الجانبية “والتكتيكية” التي صاحبت الانقلاب الأول لا تنفي الثورة ولا تلغي ضرورتها.ولعل الكثير منها قد صاحب جميع الثورات البورجوازية. ولكن كان على قادة الثورة اليمنية أن يستفيدوا من أخطاء الثورات السابقة وأن يعرفوا أنهم في عهد انهيار الطبقة البورجوازية في العالم وقيام جمهوريات اشتراكية شعبية في كثير من أنحائه وأن النظام الملكي سقط في كثير من البلدان، وخاصة حيث كان هذا النظام يستند إلى السلطة المطلقة ويرفض أن يكون مرناً وسائراً مع سنة التطور.كان عليهم أن يستوعبوا الوضع المالي الجديد ليجنبوا ثورتهم كثيراً من الأخطاء ويختصروا وقتاً طويلاً كان سيضيع على الشعب في ملافاة تلك الأخطاء ومعالجتها.ولكن لن يقول لهم أحد :لا تثوروا؟فالثورة حتمية الآن في اليمن.. كيفما جاءت.ومهما كانت أخطاؤها.ولن يخسر الشعب شيئاً بالثورة.. لا بل يستفيد كثيراً.“ إن شيئاً واحداً لا نستطيع أن ننكره، هو أن هذه الثورات تهز الأوضاع الرجعية القائمة هزاً عنيفاً فينحل تماسكها، ويتفسخ كيانها، وتنفلت على نحو ما قبضة القوى التي تحمي تلك الأوضاع”.وقد تفسح المجال لثورة أخرى.. أعظم وأشمل وأكثر نجاحاً..[c1]*عبدالله باذيب / البعث، العدد 32، 20 أغسطس 1955م.[/c]