ومنهج جديد في دراسة التاريخ
د. إبراهيم خليل العلاف أجاب المؤرخ والناقد الكبير الدكتور هشام جعيط ( 1935 - 1962) عن سؤال يتعلق بما أنجزه العرب في القرن العشرين فقال: (إن الإنجاز الوحيد هو في ميدان الدراسات والبحوث التاريخية العربية، وفي هذا المجال لا نجد إلا عددا قليلا من المؤرخين الجيدين، منهم عبدالعزيز الدوري وصالح أحمد العلي، وتلاهما فاروق عمر فوزي، وكتابات هؤلاء المؤرخين، وكلهم عراقيون، هي تقريبا الوحيدة في كل الإنتاج العربي في ميدان العلوم الإنسانية المعترف بها عالميا كبحوث جدية مسيطرة على مادتها...) واستنادا إلى هذا التقييم أو التقويم المنصف والجريء، فإن الدراسات حول أعمال أولئك المؤرخين لا تزال تترى وقد كتب الكثير عن المؤرخ الدوري الذي فارقنا قبل فترة قصيرة، وها نحن اليوم أمام كتاب جديد أنجزه الزميل الدكتور ناصر عبدالرزاق الملا جاسم وهو أستاذ مساعد في قسم التاريخ بكلية آداب الموصل والأمين العام للمكتبة المركزية، بعنوان (المؤرخ صالح أحمد العلي .. رحلة التأسيس لمنهج أكاديمي لدراسة التاريخ) الذي اضطلع بنشره مركز دراسات الوحدة العربية لأهميته.يتألف الكتاب من عشرة فصول هي على التوالي: العلي والموصل 1918 - 1935، العلي وبغداد 1935 - 1942، العلي والقاهرة 1943 - 1945، العلي وأكسفورد 1945 - 1949، والعلي وبغداد مرة أخرى 1949 - 1955، العلي وهارفارد 1956 - 1957، العراق أمام منعطف جديد 1958 - 1963، العلي عميدا لمعهد الدراسات الإسلامية العليا 1963 - 1968، العلي أستاذا في كلية الآداب 1968 - 1978، والعلي رئيسا للمجمع العلمي العراقي 1978 - 1996.وقصة الكتاب الذي نقدمه للقارئ ترجع إلى أن اهتمام المؤلف بالدكتور صالح أحمد العلي قديمة تمتد إلى الأيام التي كان فيها يحضر لأطروحته للماجستير أواخر التسعينيات، ثم للدكتوراه وكان العملان يدوران حول إسهامات المستشرق البريطاني هاملتون جب في دراسة التاريخ والحضارة العربية والإسلامية. ثم ارتأى المؤلف بعد إنجاز عمليه إلى أن يدفع تلميذا له هو هادي جرجيس لدراسة فكر ومنهج صالح أحمد العلي التاريخي لكن المنية سرعان ما عاجلته فتوفي بعد أن خطا بعض خطواته فقرر المشرف تحقيق أمنية طالبه وإصدار كتاب بالموضوع ذاته.ومما قرره الدكتور جاسم في كتابه أن المؤرخ العربي العراقي الكبير صالح أحمد العلي قامة كبيرة في مجال التكريس العلمي للمنظور القومي العلمي العربي في دراسة التاريخ، وكما قال في المقدمة فإن حياة المؤرخ العلي كانت رحلة حافلة بمعالم التأسيس لمنهج مميز لدراسة التاريخ العربي.ومن أجل تحقيق هذا الهدف عرض المؤلف سيرة العلي عبر محطات جغرافية -معرفية قادته إلى أن يقف طويلا عند الأسباب الحقيقية لانهيار المجتمعات وتراجعها فيقول إن المؤرخ العلي وجد أن الانهيار الاجتماعي يأتي بعد الأزمات الاقتصادية، ثم تأتي القوة العسكرية لتحكم على المجتمع بالحرب أو الخراب وعندئذ يلجأ الناس إلى الله، إلى المنقذ الوحيد الذي يعيد إحياء الأمل في النفوس.والعلي ـ شأنه شأن اشبنكلر وتوينبي وايليوت ـ كان يتساءل: (وماذا بعد الخراب؟) ومع أن صاحب الكتاب قال إن العلي رجح العامل الديني في إحداث التغيير وتفسير ما يحدث إلا أنني لا أوافقه في هذا الاستنتاج الذي توصل إليه فالعلي - كما عرفته - لم يكن كذلك، وإنما كان معروفا كالدوري في ترجيحه العوامل الاقتصادية والاجتماعية ليس في نشأة المجتمعات، وإنما في خرابها وانهيارها. ومما يدعم وجهة نظري ما ذكره المؤلف نفسه من أن إعفاء العلي من رئاسة المجمع العلمي العراقي وظروف الحصار على العراق والفاقة التي كان يشعر بها مع زملائه أساتذة الجامعات والمثقفين عموما وجلوسه في البيت واقترابه من الثمانين من العمر وما ناله من الأمراض، كل ذلك ضاعف عنده التفكير والتعمق بما كان يكتب عنه من أسباب النهوض ودوافع السقوط، فالحياة في العراق تعسرت ولم يعد قادرا على تأمين العيش لأسرته والراتب التقاعدي أصبح لا يكفي لتلبية الحد الأدنى من متطلبات الحياة، عندئذ عاد ليؤكد من خلال ما كتبه في مذكراته المخطوطة: (لقد أصاب العراق تدهور مادي واسع وسريع دفع الكثيرين إلى الهجرة والرغبة فيها، ولم تعد معالجته تتم بيسر آثار كل هذا التفكير في بعض الأحقية في العامل الاقتصادي في توجهات المجتمع ...). وهنا أود القول إنني وجدت العلي منسجما أكثر من أي وقت مضى مع ماكان يدعو إليه ويوثقه في كتاباته، وهو أن العوامل الاقتصادية لها أهمية في سير حركة التاريخ.لقد سبق لي أن كتبت عن العلي في موسوعتي الالكترونية (موسوعة المؤرخين العراقيين المعاصرين) وقلت إنه أنجز دراسات قيمة وممتازة على صعيد التنظيمات الاقتصادية والاجتماعية العربية، وطبيعة التحديات التي واجهت العرب عبر تاريخهم الطويل. عرفته منذ أن كنت طالباً في كلية التربية أبان الستينيات من القرن الماضي، واقتربتُ منه في دراستي العليا، حيث كان يرأس قسم التاريخ بكلية الآداب، جامعة بغداد، في أواسط السبعينيات من القرن الماضي، وقد أُعجبت به، وبفكره الوقاد، وبحرصه، وجديته، ونظرته الثاقبة لأحداث التاريخ، وفوق هذا وذاك صدقه، وتواضعه، وحبه لطلبته وزملائه، وثقافته الموسوعية التي أفدنا منها كثيراً.ولد صالح أحمد العلي في مدينة الموصل سنة 1918، وأكمل فيها دراسته الابتدائية والمتوسطة، ثم تابع دراسته في بغداد حيث التحق بدار المعلمين الابتدائية وبعدها في دار المعلمين العالية، وقد حصل على شهادة الليسانس منها سنة 1941. اشتغل بعد تخرجه مدرساً في متوسطة البصرة، وفي المتوسطة الغربية ببغداد. واختارته وزارة المعـارف (التربية) ليكون ضمن بعثتها العلمية التي أرسلتها إلى جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة) 1943 ـ 1945، وحصل على الماجستير منها، ثم أكمل دراسته في جامعة أكسفورد وحصل على الدكتوراه سنة 1949، وكان مشرفه المستشرق الإنكليزي المعروف السر هاملتون جب، ولما عاد إلى بغداد عين في كلية الآداب بجامعة بغداد، وقد رقي إلى مرتبة الأستـاذية سنة 1955، وعين رئيساً لقسم التاريخ أكثر من مرة، كما عمل عميداً لمعهـد الدراسات الإسلامية العليا بجامعة بغـداد 1963 ـ 1968 ورئيساً للمجمع العلمي العراقي منذ 1978 وحتى 2001. درس في جامعات عربية وعالمية عديدة منها جامعة هارفرد (1956 ـ 1957)، وحرر في موسوعات عالمية منها: الموسوعة البريطانية، ودائرة المعارف الإسلامية، وكتـبا مواد كثيـرة في هاتيـن الموسوعتين منهـا المواد (عريف) و(البطائح ) و(دير الجماجم) و(عوانة بن الحكم).كانت أطروحته للدكتوراه عن (التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في القرن الأول الهجري 1954)، وقد نشرت. كما طبع كتاباً بعنوان (محاضرات في تاريخ العرب)، وقد ظل كتاباً منهجياً ومساعداً في الجامعات العراقية منذ سنة 1955 حتى يومنا هذا.وفي سنة 1983 نشر له في بيروت كتابه (دراسات في تطور الحركة الفكرية في صدر الإسلام)، ومن كتبه كذلك: (الدولة في عهد الرسول محمد )و (المعالم العمرانية في مكة المكرمة).نشر بحوثاً عن (خطط البصرة) و (خطط بغداد) و(أحكام الرسول محمد ( في الأراضي المفتوحة) و(استيطان العرب في خراسان) و(ما ساهم به العرب في المائة سنة الأخيرة في دراسة تاريخ الأدب العربي). كما ترجم كتباً عديدة، منها محاضرات الأستاذ ستيفن رونسيمان عن (المدينة البيزنطية) و(الحروب الصليبية)، كما ترجم لأرنست رامزاور كتابه (تركيا الفتاة) ولروزنثال كتابه: (علم التاريخ عند المسلمين). في سنة 1989 فاز الدكتور العلي بجائزة الملك فيصل العالمية، وجاء في حيثيات منحه الجائزة: (إن الدكتور العلي يستحق الجائزة لتفوقه الرائع على جميع المؤرخين العرب والمسلمين في غزارة، وجودة ما أنتج من دراسات رائدة ومعتمدة). كما فاز بجائزة سلطان العويس للدراسات الإنسانية والمستقبلية باعتباره واحدا ممن أرسى أسس مدرسة عربية جديدة في قراءة وكتابة التاريخ العربي والإسلامي .يرفض الدكتور العلي الأفكار المسبقة عند كتابة التاريخ. وفلسفته في تفسير التاريخ تقوم على أساس أن لكل حادثة تاريخية أسباباً متعددة ودوافع معقدة، كما أن نتائج كل حادثة قد تباين نتائج غيرها، فقد تكون نتائجها متعددة أو محدودة كبيرة أو بعيدة المدى بعضها ظاهر سهل إدراكـه وبعضها خفي يتطلب ذكاء وفطنة لكشفه وإظهاره. ويرى الدكتور العلي أن تاريخ العراق، كـان ولا يزال موضع اهتمام واسع منذ أقدم الأزمنة، وأن كثيراً من الأمم والشعوب قد اقتبست من حضارته وأفادت من إبداعاته، وتوسع في توضيح ذلك من خلال إسهامه مع كـل من الدكتور عبدالعزيز الـدوري، والدكتور جعفر خصباك، والدكتور ياسين عبدالكريم في تأليف كراس أصدرتـه جمعية المؤلفين والكتاب العراقيين ببغداد سنة 1959 بعنوان (تفسير التاريخ) أكد فيه اهتمام الإنسان العراقي بدراسة الماضي منذ العصور القديمة. أسهم الدكتور العلي في مشاريع وزارة الثقافة والإعلام العراقية أبان الثمانينيات من القرن الماضي، والتي اهتمت بالتاريخ منها: (العراق في التاريخ) و(حضارة العراق) و(العراق في مواجهة التحديات) و(الجيش والسلاح) وله مقالات وبحوث عديدة في أهمية إعادة كتابة التاريخ وآليات ذلك. كتبت عنه مقالة في جريدة فتى العراق الموصلية (العدد 35 الصادر في 25 يونيو:حزيران 2004) بعنوان (الدكتور صالح أحمد العلي وكتابة التاريـخ)، قلت فيها: إن الدكتور العلي خـدم، من خلال التاريخ، وطنه وأمته والإنسانية جمعاء. كان عضواً في مجامع وهيئات ومجلات ومؤسسات علمية عديدة منها عضويته في المعهد الأسباني العربي في مدريد، وعضويته في الجمعية الاركيولوجية (الاثارية)، في الهند، وقد ترجم الكثير من أعماله إلى لغات متعددة. توفي في 22 ديسمبر/كانون الأول 2003.مما يلحظ على أعمال الدكتور صالح أحمد العلي أنه كان مربيا ومعلما. وكانت رؤيته التاريخية متسمة بالنزعة الإنسانية. كما أنه لم يحصر نفسه في زاوية ضيقة من زوايا التاريخ، وإنما انصرف إلى معالجة كل جوانب التاريخ، بحقبه المختلفة، فضلا عن أن لديه اجتهاداته الخاصة التي أشرنا إليها، وخاصة على صعيد التفسير التاريخي الذي يأخذ بالدوافع المختلفة وخاصة الاقتصادية والاجتماعية، والمرتكز على أسس علمية، ووطنية، وقومية، وإنسانية وهذا ما جعله يحتل مرتبة متقدمة في مسار الفكر التاريخي العالمي.