حملت مدينة عدن على جنباتها منذ مطلع القرن الماضي مشروعاً غنائياً موسيقياً كان نقطة تحول وانقلاباً فنياً غير في مسار وهيكل قوام بنية الاغنية اليمنية من النمط التقليدي المتداول والمعهود إلى مرحلة جديدة تميزت باشتغالاتها الجادة والمدروسة ، ذلك بخلق اشكال غنائية جديدة وقوالب موسيقية حديثة استندت إلى الطابع العلمي المنهاجي ، وتمردت بوعي ودراية على شكلها السائد والمعروف في ذلك الوقت ، فقد استطاع جيل الريادة من الفنانين تأسيس وبناء قوالب واشكال موسيقية غنائية (حديثة) جمعت بين الاصالة والتجديد ، وسميت فيما بعد بما يعرف بالغناء الحديث الذي تجاوز بقيمته الفنية ومستواه الراقي المتطور كل ما كان سائداً وموجوداً في تلك الحقبة الزمنية. . فأصبحت الأغنية العدنية بلونها العدني وبثوبها وحلتها الغنائية الموسيقية الجديدة والغناء الحديث وجهان لعملة واحدة . وقد كان من أبرز روادها ومؤسسيها الفنانون الكبار : خليل محمد خليل ،يحيى مكي ، سالم بامدهف ، اسكندر ثابت ، أحمد قاسم ، المرشدي ، محمد سعد عبدالله ، محمد عبده زيدي وآخرون. وفي واقع الأمر ان الغناء الحديث كان قاسماً مشتركاً حرص بالاشتغال عليه غنائياً وموسيقياً كل جيل الريادة ، بالاضافة لذلك الهاجس الابداعي الرائع والعام في الانشغال الفكري بالحداثة والتجديد ، وان كانت كل هذه الافكار الغنائية والموسيقية في ذلك الوقت عملت تحت شعار ومفهوم اللون العدني أو الاغنية العدنية لسبب أو لاخر لسنا بصدده في هذا المقام ، إلا أنها في حقيقة الأمر قدمت للغناء اليمني مستوى عالياً راقياً ومتطوراً في أسلوب صياغة الجملة الغنائية الموسيقية ارتقى بذائقة المستمع في الداخل والخارج بشكل عام ، وكان لمدينة عدن هذا السبق الحضاري الإبداعي الإنساني .كان لكل واحد من الفنانين الرواد طريقته الخاصة ومدرسته المستقلة المتفردة عن غيره من زملائه الفنانين الاخرين ، جعلت له ملامح واستقلالية تميزت بها تجربته الغنائية الموسيقية بتعامله وتعاطيه مع التجديد والحداثة بأدواته الفنية الخاصة واسلوبه ونهجه المتميز في صياغة نتاجاته الإبداعية ، وقد سبق وتحدثنا في مواضيع عديدة نشرت تباعاً بالصحف ، وأشرنا بالتفصيل إلى مايميز كل تجربة من التجارب عن غيرها .نحن اليوم نقف أمام تجربة فنان ملتزم في غاية الأهمية ، ذلك لانه حمل على عاتقه مهمة تغيير أسلوب الغناء اليمني من الغناء (التطريبي) إلى أسلوب جديد عُرف بمسمى الغناء ( التعبيري) ، فقد كان الغناء اليمني حينها يعتمد على قوة الصوت والاداء الذي يستند إلى السلطنة والتطريب ، وحرفية الصوت بزخرفاته وعربه اثناء الأداء ، وهو ما عرف بالغناء التطريبي.أما الغناء التعبيري فإنه يختلف تماماً عن سابقه اختلافاً جذرياً ، إذ أن الغناء التعبيري يعتمد على رقة الصوت ودقة التصوير والتعبير الذي يجسد المعاني بإحساس قوي مصحوباً بأداءً هادىء عميقٍ راكزٍ للفنان دون تكلف أو افتعال .فإذا استمعنا إلى اعمال الفنان الرائع محمد عبده زيدي سنجدها عبارة عن سيناريو غنائي موسيقي متكامل يحمل دلالات موسيقية درامية مكثفة لم نعهدها في الغناء اليمني بذلك العمق والثراء والخصوبة إلا في تجربة الاستاذ إسكندر ثابت ، التي كان لها السبق والخوض بهذا الاسلوب الموسيقي الغنائي الدرامي الحديث والجديد ، مع وجود التمايز والخصوصية بين كل من التجربتين .فالأستاذ محمد عبده زيدي نجد أن صوته والحانه تفصح لنا بوضوح عن قدرته الفائقة ، وحنكته على تجسيد كل انفعالاته واحاسيسه وخلجاته للتعبير عن مضامين ومعاني النص الغنائي الذي يتعاطاه ، فيضيف بصوته والحانه ابعاداً جمالية وروحية تعطي للنص الغنائي الذي يتعامل معه محمد عبده زيدي إضافات جمالية زاخرة بالصور والدلالات الرائعة المتناغمة مع صوته الدافىء الشجي العميق ، فيأخذنا عند سماعنا لاعماله إلى عوالم وفضاءات ابداعية رحبة نطوف بها معه فنستمع ونتأمل في وقت واحد لسيناريو موسيقي غنائي غاية في الروعة والجمال .وإذا اردنا ان نتأكد من صحة ما أشرنا إليه آنفاً فإننا نشعر ونحن نستمع إلى أعمال الاستاذ محمد عبده زيدي بأنه لايمكن الفصل في أغانيه بين المذهب والكوبليه ، وإلا حدث خلل في سياق اللحن والأغنية ، ذلك لأن بناءها الموسيقي الغنائي الدرامي متماسك متسلسل كوحدة مترابطة لايمكن الفصل فيها بين المذهب والكوبليهات ..ومن هنا تأتي مصداقية (الزيدي) وعظمته في تصوير وترجمة معاناته مع الشاعر بكل صدق وأمانة دون صنعة في كل حالاته الابداعية .وأمثلتنا على ذلك على سبيل المثال لا الحصر أعماله الغنائية : السعادة ، ورأسك ، غصب عني ، يا حبيب العمر ، غزير السلى ، فقدان ، يا قلبي كفاية ، أحلف بحسنك ، تعال ، القناعة ، لاتتعب نفسك ، ايام تمر ، والله بلدنا نورت ، يا سلام ياتلال ، الوصية .وفي الحقيقة أن أسلوب ونهج الفنان المبدع محمد عبده زيدي في التلحين هو عبارة عن قصة يكتبها بصياغة موسيقية لها بداية .. وحبكة .. ونهاية. ** رغم العطاء الفني والإنساني الذي قدمه (الزيدي) للوطن إلا انه لم ينل ما يستحقه من الوفاء والرعاية إلى أن توفاه الله .** شكل الفنان محمد عبده زيدي (ثنائياً ناجحاً) مع الشاعر الجميل مصفى خضر ، وقدما معاً روائع خالدة ، بالاضافة إلى تعامله مع شعراء مهمين كالأساتذة أحمد الجابري ، نزار قباني ، لطفي جعفر أمان ، الحميقاني ، أحمد الحماطي ، عبدالرحمن إبراهيم ، عبدالله عبدالكريم ، الأمير صالح مهدي العبدلي .** تعامل الأستاذ محمد عبده زيدي مع المقامات الشرقية الأصيلة في اغنياته منها على سبيل المثال : الراست / البياتي / الكرد / النهوند وغيرها .** كان الفنان محمد عبده زيدي يشغل منصب رئيس قسم الموسيقى في الاذاعة بعدن ، وله بصمات متميزة موثقة في كثير من التسجيلات الغنائية والفنية.** قدم الأستاذ محمد عبده زيدي العديد من الاصوات التي تبناها منهم على سبيل المثال الاساتذة " صباح منصر ، رجاء باسودان ، عصام خليدي ، نجيب ثابت ، جمال داؤد ، كفى عراقي ، محمد خميس.** ثأتر الفنان محمد عبده زيدي بالفنان أحمد قاسم في بداية حياته وكان عازفاً للكمان بفرقته التجديدية ثم أرسله بعد ذلك للقاهرة لدراسة هندسة الصوت على نفقته الخاصة.** عشق الفنان محمد عبده زيدي تجربة الفنان الكبير عبدالحليم حافظ ، ومدرسته الموسيقية الغنائية مع الملحنين الكبار ، محمد الموجي ، كمال الطويل ، بليغ حمدي، التي تميزت باسلوب الغناء التعبيري والاداء العميق والصادق .. وأتذكر انه بدأ حياته كفنان بأغنية (قوللي حاجة ) التي غناها عبدالحليم حافظ واشتهر بها كمطرب ، وقد نجح الفنان محمد عبده زيدي ايضاً في هذه الأغنية التي قدمها بحفل فني كبير شهد ولادته كمطرب فيما بعد ، قدم الاستاذ محمد عبده زيدي اعمالاً وطنية خالدة ورائعة ، وبأسلوب جديد ، وتناول موسيقي متطور وراق .[c1]وثبات فنية متألقة[/c]ظل عطاء فناننا القدير محمد عبده زيدي متدفقاً متجدداً حتى أخر رمق في حياته وبقيت نتاجاته الإبداعية تنبض بالحيوية والحركة منذ بداياته الاولى وكذلك بأعماله الجديدة والحديثة التي قام بتسجيلها مؤخراً للإذاعة والتلفزيون .. نتذكر من هذه الأعمال الرائعة : 1) لاتتعب نفسك ـ كلمات لطفي جعفر أمان 2 ) شكراً لخطابك الأخير ـ كلمات نزار قبـــاني 3 ) القناعة- كلمات ناصر علوي الحميقاني .وجدير بالاشارة أنه قد قام بتوثيق هذه الأعمال جميعها لاذاعة عدن ولم يتمكن من تسجيلها للتلفزيون لظروفه الصحية باستثناء أغنية (القناعة) التي سجلت في حفل وحفظت في مكتبة تلفزيون عدن القناة (2).والحقيقة ان الزيدي (رحمه الله) حقق ما عجز عنه الكثيرون من الفنانين الأحياء ، ولكنهم للأسف (ماتوا فنياً) منذ زمن طويل ، فعند الاستماع إلى أعماله الاخيرة سنجده في كل أغنية من الاغاني الثلاث التي ذكرناها يختلف شكلاً ومضموناً ببراعة وحنكة تؤكد قدرته الفائقة على الاستمرارية والتجدد بما يتواءم وينسجم مع آخر صيحات ومبتكرات الزمن الذي يعيشه ، وربما في أحيان كثيرة نجده يسبق عصره في التنبؤ بما يمكن أن يحدث للأذن المستمعة والمتلقية لأعماله ونتاجاته الرائعة ، فظل الفنان المبدع محمد عبده زيدي عائشاً في وجداننا وقلوبنا باعماله الخالدة رغم رحيله .** شكلت عطاءاته ونتاجاته (الغنائية الموسيقية الوطنية) أنموذجاً مغايراً خرج به عن المألوف ، منها على سبيل المثال : والله بلدنا نورت ، ياسلام ياتلال ، الوصية فأتسمت غالبيتها بالعاطفة المتدفقة بالمشاعر الجياشة حباً وعشقاً للوطن ، إضافة لرشاقة وحيوية الإيقاع المصاحب للجملة الموسيقية في وطنياته الخالدة .** والواقع أن من أهم أسباب حبي وعشقي واحترامي (للزيدي) أنه رفض أن أكون (مقلداً) لمحمد عبده زيدي أو لغيره من الفنانين الآخرين ، وشجعني بالنصيحة والرأي السديد للاستقلال بشخصيتي الفنية الجديدة ، الأمر الذي جعله كبيراً في قلبي اسماً ومعنى لاينفصلان على الإطلاق .** عرضت القناة الفضائية اليمنية بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيل الفنان محمد عبده زيدي مجموعة من أغانيه ، من ضمنها أغنية قدمها على العود فقط في الثمانينات حملت أهم الألحان في زوامل (خيلت براقاً لمع) ، وذلك يؤكد ما ذكرناه سلفاً من وثبات والتقاطات فنية جادة وهامة للفنان العظيم محمد عبده زيدي .[c1]ختاماً [/c]عرفت الاستاذ القدير محمد عبده زيدي كتلة من المشاعر والأحاسيس الإنسانية ، معتزاً بنفسه وبفنه ، وقد كان بالنسبة لنا ولايزال معلماً وأخاً كبيراً وصديقاًَ صدوقاً منذ عرفناه إلى أن توفاه الله .رحم الله فقيدنا استاذ الأجيال (محمد عبده زيدي) وأسكنه فسيح جناته ، فقد كان بحق يشكل بعطائه الغنائي الموسيقي إضافة متفردة ومتميزة في مسار الغناء اليمني الحديث .[c1]خاطرة [/c]لا أدري لماذا لم يدرج العمالقة : سالم بامدهف / يحيى مكي / د. محمد عبده غانم / علي محمد لقمان / الأمير أحمد فضل القمندان / محمد سعيد جرادة / محمد عبده زيدي / لطفي جعفر أمان / محمد سعد صنعاني / محمد جمعة خان / أحمد الجابري / صالح فقيه / صالح نصيب / عمر عبدالله نسير / فضل محمد اللحجي .. في قائمة المكرمين الذين قدموا عطاءات استثنائية ويحتفى بهم بما بنسجم ويليق بمكانتهم وتاريخهم الابداعي المشرق والحافل .. ربما لحكمة نجهلها جميعاً ؟!!** في تسجيل نادر احتفظ به في مكتبتي الغنائية والموسيقية استمعت إلى زامل (خيلت براقاً لمع) بصوت الشيخ إبراهيم الماس ـ رحمه الله ـ اعجبني فيه أداؤه الرائع والمتميز واسلوبه المتمكن في الغناء اليمني .
|
رياضة
الفنان الكبير محمد عبده زيدي وفرادة الغناء التجديدي
أخبار متعلقة