عبدالله علوانتأتي عبارة ( القاع ياطير الأطماع) في بداية المبيتة الاخيرة من قصيدة الشاعر عبدالرحمن الآنسي ( طرب سجوعه وكرر)..والعبارة تنطوي على معاني النهي والزجر، وتفوح بنفاد صبر الشاعر من لجاجة الطير وعدم اقتناعه بحقيقة. يحاول الشاعر ان يقنعه بها بالنصح والوعظ الاتعاظ وبضرب الامثال له ومن خلال تجربته بذلك الظبي الارعن، الذي مازال الطير يعقد عليه آماله، رغم ما شاهد من تصرفاته الرعناء وسلوكه الغادر ، وفي هذا الطير وذاك الظبي الارعن ، ندرك ليس فقط مأساة الطير وعدم اعتباره بتجربته او الاتعاظ بها من خلال نصاحة الشاعر، بل ندرك ايضاً مهزلة الظن ، ظن الشاعر بالظبي، قبل ان يعامله ويتعامل معه ، فوجده احمق من ضب، وأغدر من افعى.يأمر الشاعر الطير بالتزام القاع لان التحليق خلف السراب واغراق السماء بالريش بحثاً عن ما لا يمكن الحصول عليه ، مسألة عبثية لاجدوى منها ،مهما كثر البحث والتفتيش ، فالدوار ( بتشديد الدال وكسره، وتشديد الواو وفتحه) كلمة عامية محورة من الفصحى ، وتعني البحث والتفتيش ، ولذا يطلب الشاعر من الطير الاعراض عن من اعرض عنه وهذا مايعنيه بعبارة ( إضرب سديه واقصر الباع لمن ضرب دونك الميش) والميش عامية، وتعني تجاهل من يتجاهلك ، ( فالتكبر على المتكبر سنة) ومثلها كلمة سديه وتعني تجاهل من تجاهلك واذا كان لذلك الظبي نصيب في العودة ، فإن أيامه ستعود به ، فكل حي لابد ان يعود به عمره ..والموشحة الخامسة تمتدح رأي الشاعر القائم على المبدأ الاشعري ، وهو ( الدين النصيحة) ثم يعيد الامور الى الله تعالى ، وبذلك ينتهي تفسير القصيدة من حيث المضمون، لكن لابد من الوقوف عند لغة القصيدة ، وتراكيبها المجازية.[c1]بين العامية والفصحى:[/c]لغة القصيدة بل لغة الشعر الحميني كله ، لغة غير معربة، فلغة الحميني لاتعتمد الاعراب في تراكيبها وانما ترسل معانيها بأسلوب عامي متحرر من قواعد الاعراب لكن التحرر من الاعراب يربك الاوزان العروضية احياناً ، فقد تقف الكلمة في الحشو على السكون ، فيكون تحريكها بأي حركة اعرابية نوعاً من الزحاف غير المستحب مثل التذييل في حشو البيت ، او الترفيل، او الخرم والثرم، فتختل الاوزان عند التحليل العروضي ، مع انها متماسكة عروضيا عند قراءتها وفق قواعد الشعر الحميني، خذ مثلاً لذلك قول الشاعر من قصيدة ( طرب سجوعه وكرر):ما كل ما /فات يفدى ×××× فالصبر وه/ والمفدىمستفعلن / فاعلاتن ×××× مستفعلن/ فاعلاتنتام/تام ×××× تام/تاموبعده ال / ياس اجدى ×××× فالياس دوا/ والطمع دامفاعلن/ فاعلاتن ×××× فعلان فعو/ فاعلاتنمخبون / تام ×××× ترفيل في الحشو / تام فالبيت الاول يقوم على المجتث التام،( مستفعلن فاعلاتن) أما البيت الثاني فعروضه في الصدر مستقيم ولاغبار عليه، إلا من تفعيلته المخبونة، اما في العجز فتفعيلته الاولى مرفلة في الحشو، والترفيل لا يكون الا في نهاية الابيات والا فهو نشاز وهذا الترفيل جاء بسبب اضافة ساكن في وسط مستفعلن ، مع الحفاظ على وتدها المجموع .( ْ ْ//) او قل ان الشاعر انتابته حالة قلق عند كلمة اليأس فاعتل كلامه اعتلالا غير مستحب ، ومثل هذا الزحاف نجده كثيراً في الشعر الحميني، بسبب من عدم الاعراب للكلمات وللجمل الشعرية..اما لغة الشعر الحميني ، فهي ليست اللغة الدارجة او اللهجة العامية وانما تعتمد اللغة الفصحى ولكن الفصحى المشوبة بكلمات عامية او دارجة ، هي بالاصل عربية ولكنها تكيفت بأشكال النطق العامي وبدت وكأنها عامية ، مع انها من الفصحى ،فاللهجات العربية هي أصل اللغة الفصحى وأصل الكلام المحكم ، ولبيان ذلك سنقف عند لغة القصيدة ( طرب سجوعه وكرر).فالقصيدة تنبني على اللغة الفصحى المتحررة من الاعراب مراعاة لقواعد الشعر الحميني ، ولكنها لغة مشوبة ببعض الكلمات العامية، مثل كلمة ( مدري) في قوله:(مدري ) ذكر او تذكر ×××× عهد اللقا من حبيبه وكلمة مدري، اصلها ( ما ادري ) اندمجت ما النافية بالفعل المضارع ( ادري ) وللاستخفاف فحذفوا الف (ما) النافية وهمزة الفعل ادري ، فاتت بهذه الصيغة العامية ( مدري) ولكنها المستحبة عند العامة والخاصة على حد سواء ، اما بقية الفاظ البيت فهي لغة فصحى متحررة من الاعراب كما ترى في ماضي الفعل الثلاثي المجرد ( ذكر) او الفعل المزيد ( تذكر) وكلاهما بمعنى واحد، الا ان القافية، او الموضوع اقتضى كلاهما التكرار.وفي القصيدة الفاظ عامية ، لاتزيد عن اصابع اليد الواحدة مثل كلمة ( توطوا) و ( بسك) و ( سديه)و ( الميش) فالفعل ( توطوا) من الوطاء وهو يعني السير او الرحيل والسفر من المرتفعات الى تهامة والبس ( في بسك الشوق بسك) هو فعل امر ويعني حسبك او يكفيك ما بك من الشوق.اما كلمة سديه ، ثم الميش في قوله :فاضرب سديه، واقصر الباع ×××× لمن ضرب دونك الميش فالسديه، اسم منحرف من ( السدي) اي الهبا، ويعني به الاعراض ،والتناسي او التجاهل ومثله من حيث المعنى كلمة ( ميش) ( ارجع لشرح الديوان للأ غبري وال أرياني صـ 315).ما عدا هذه الالفاظ الخمسة فكل لغة القصيدة من اللغة الفصحى ، ولننظر الى ذلك من خلال مجموعة من التراكيب اللغوية اولها مجموعة الكنايات:طير الغصون الرطيبةفوج الصبا من هبيبهطيور البواسقحكمة الهند صايح اليوم بالقوموكل هذه الكنايات تقوم على لغة فصحى وتراكيب متينة ، ولكنها غير معربة، فطير الغصون الرطيبة غير طير القصور، او طير البحر، او طير الفيافي او طير الجبال ، الخ وكلمة الرطيبة ، وتعني الغصون الندية ، والجملة مجازية او كناية عن المثقف العامي المرتبط بميادين العلم والعمل.اما عبارة ( فوج الصبا من هبيبه) فيعني به الطائفة من ريح الصبا او الانسام وجملة من هبيبة مالها اي وظيفة سوى اقامة القافية وطيور البواسق ، كناية عن طيور الاشجار العالية كالنخيل مثلاً لكن العبارة مجازية ويعني به العلماء الذين يشيعون العلم والتعليم ، في الجوامع.وحكمة الهند، كناية عن علوم الهند الطبية والنطرية ، اما عبارة صايح اليوم بالقوم، فكناية عن دعوة الى هذا المذهب الصوفي او ذاك ، او كناية عن دعوات الأئمة الى الخروج على النظام او كناية عن الانتماء الى هذه الفرقة الكلامية او تلك وهذه من مظاهر النشاط الثقافي ، في اي مجال كان ، لانستطيع تحديده فقط نشير اليه .وتسبيحة الماء العجيبة ، اشارة الى دعاء النبي يونس وهو في جوف الحوت ( فنادى في الظلمات ان لا إله إلا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين ).اما عبارة طير الأطماع فكناية عن ذلك العلامة، او الشاعر، او المثقف الذي قضى وقته في حوار مع الشاعر ، ومناظرته من بعد صلاة العشاء حتى طلوع الفجر.وهناك مجموعة اخرى من الجمل الشعرية مثل قوله :-شقق الصبح جيبه-قصر الحبل واحذر-انت اصطحبت السلامةفالفعل شقق المسند الى الصبح، هو كناية عن انبلاج الفجر والجيب وكناية عن مطلع الفجر وانبلاجه من سواد الليل وقصر الحبل كناية عن عدم التمادي في الغي المرهون بالاختيار.واحذر فعل امر يعني به التيقظ والتنبيه من امور هو لايدرك مصادرها من مواردها .واصطحاب السلامة كناية عن اختيار الطير الجماعة والذهاب معهم، وهناك مجموعة ثالثة هي جمل اسمية قيدها الشاعر بالصفات مثل :- الظبي الارعن-اليأس دواء-الطمع داءفالرعونة صفة تحدد وعي الظبي واخلاقه وتعني الحماقة والتهور وهذه الصفة تجعل الظبي وكأنه داعية يستقطب المثقفين ويسوقهم الى مهالك هو نفسه اجهل بمصيره منهم، ناهيك عن اعضاء جماعته المنصاعة لموقفه ،تحت ذريعة الاختيار اللاواعي.واليأس لايكون دواء ، الا ان الشاعر ينصح الطير بترك الامر ونسيانه ، حتى يشفى من تعلقه بهذه الجماعة الغوغائية او بالظبي الارعن.وكذلك الطمع ووصفه بالداء هو داء بسبب طمع الطير بالظبي وامعان الطير في طلبه الرجوع الى الجماعة الضالة.وفي القصيدة انواع من التناظر والطباق ، والجناس الناقص.فمن التناظر نجد أسماء متناظرة كالشاعر الذي يناظر الطير ويخبره بما كابد من حماقته ومع ان الطير حيوان جوي الا انه اخذ جوهرا انسانياً بمناظرته الشاعر ومحاورته له، وكذلك الظبي هو نوع من الحيوانات اللطيفة غير المدجنة لكنه ظبي احمق وعياب او كثير العيوب والعيب يعني الغدر لانه يقود الناس الى المهالك مثله مثل القطب الصوفي او الامام الخارجي او الشيخ المتمرد .. الخ وهناك تناظر بين الهوى والحب ،فالهوى، كناية عن الميول العاطفية وعن النزوات السياسية والعقائدية وهو هنا يناظر الحب ، والحب ،كناية عن تعلق هذا الانسان او ذاك بصديقه اورفيقه او حزبه الخ ، وهو هنا يناظر الهوى ، وبين الهوى والحب علاقة تشارط ، كعلاقة السبب بالنتيجة ، وكذلك نجد التناظر بين الرعونة والعيب فالعيب يناظر الرعونة لان الرعونة هي ام الغدر، ولذلك فهي تناظره ومع التناظر هناك الطباق ، ونجده في قوله:بعد المدى من قريبه ×××× والوحشة / والانسهيهات من يوم امسك ×××× والداء / والدواءفالبعيد يطابق القريب ، مطابقة الضد لضده ،واليوم يطابق الامس ، مطابقة الحاضر للماضي والوحشة تطابق الانس ، مطابقة ضدية والدواء ضد الداءومن الجناس الناقص قوله :ومن تبصر بروحه ×××× في الحب داوى جروحهبحكمة الهند ويحه ×××× ماهو ببكيه ونوحهفالجناس الناقص ملحوظ في الفاظ الروح والجروح والويح والنواح.خلاصة الكلام ان لغة الشعر الحميني ، وبالذات شعر عبدالرحمن الانسي ، تنبني على اللغة الفصحى بالاصل ولكنها لغة مشوبة باللهجة الدارجة ، بسبب من استخدامه الاسلوب العامي وبالرجوع الى ديوان الشعر الحميني يتضح لنا كل ذلك.[c1]الاجتثاث والقطع[/c]تنبني قصيدة ( طرب سجوعه وكرر) على خمس مبيتات وخمس موشحات ، فعلى كل مبيته يعلق الشاعر وشاحا هو من نفس الوزن ولكن بقافية مختلفة عن المبيتة ، فيكون من اربعة ابيات وفق اصطلاح شعراء العمود ، اما الوشاح فيتكون من بيتين فقط كما رأينا ذلك اعلاه.وتقوم القصيدة موسيقياً على بحر المجتث مع مايلازم ذلك من زحافات مستحبة وغير مستحبة ، هكذا :مستفعلن فاعلاتن ×××× مستفعلن فاعلاتنطرب سجوعه وكرر ×××× طير الغصون الرطيبه[c1]اما القافية فهي مقيدة[/c]وهذا الاجتثات وذلك القيد يتناسبان مع مضمون القصيدة الذي يقول الاجتثاث والقطع بدون قصد من الشاعر، فالطير تعرض للاجتثاث بسبب اختياره الانفعالي وانصياعه خلف الظبي الارعن، ورحيله معه من المرتفعات الى سهول تهامة ، وكان ذلك الظبي الارعن هو فاعل الاجتثات على الطير وعلى القوم الذين اصطحبوا الطير بالرحيل من الجبال الى تهامة.اما القطع فندركه من خلال موقف الشاعر من الظبي، ومن خلال نصيحته الطير بقطع العلاقة مع الظبي الارعن.وندرك معني القيد من خلال المناظرة بين الشاعر والطير، وهي مناظرة مقيدة بالحوار في مجلس واحد هو مجلس الشاعر، كما ندرك القيد من خلال استمساك الطير باذيال الظبي، ولهاثه بحثاً عنه ،وعدم تحرره منه رغم نصائح الشاعر وحججه الصادقة والتي لم يقتنع بها الظبي.ثم ينتهي الحوارعلى قاعدة زيديه هي قولهم :( لا إقناع لمن لايقنع)وهذه القافية المقيدة هي متنوعة ، فلكل مبيته قافية تختلف لا عن الموشحات وحسب بل عن الابيات الاخرى.لكن تبقى كل مبيتة مربوطة من قافيتها الاخيرة الى قافية البيت الاول وزناً وروياً.
|
ثقافة
(القاع ياطير الأطماع) ومآسي النوايا الطيبة الاختيار
أخبار متعلقة