لك الله أيها الإنسان في عصرنا الحاضر، فلقد أعطتك المدنية كل أسباب النعيم وهيأت لك التكنولوجيا الحديثة ما لم يخطر لك على بال، ثم إنها مع هذا العطاء تسلبك أشياء تعتز بها وتتمنى عدم زوالها، ولكنها سنة الحياة : نعيم وحرمان، شقاء وسعادة، يسر وعسر.وتحضرني قصة الحطاب الذي كان يسكن بجوار قصر الغني يبيع ما يحتطب، قانعاً، هو وعائلته بما رزقه الله، يغني أول الليل وسرعان ما يداعب الكرى جفنيه فيكون في سبات عميق، ويحسده جاره الغني الذي يشكو من الأرق والسهر، ولا يجد سبباً ظاهراً لسعادة الحطاب، فيهديه تفكيره إلى أن يعطيه مبلغاً كبيراً من المال، وينظر ماذا يصنع، فإذا الغناء يصير أنات، وإذا الجفون يهجرها النوم، وإذا الحال يتبدل والأفكار تتكاثر : أين يضع المال؟ وأين ينفقه؟ وماذا يصنع لو هاجمه لص؟ إلى ذلك من الهواجس، سلبته السعادة التي كان يعيش فيها، والصحة التي كان يتمتع بها، وهداه تفكيره إلى أن يرد المال إلى صاحبه، ويعود إلى سيرته الأولى لتعود إليه سعادته.تلك حال الإنسان في هذا الزمان، ولكنه لا يمكنه أن يرد ما أعطي، فهو في نهم زائد، واستكثار من الرخاء والمال، لعله بذلك يجد الوسيلة إلى السعادة والهناء، وهيهات أن يبلغ ما يتمنى، وهذا هو ما نسميه التوتر العصبي.ويعاني الشخص من التوتر العصبي إذا كان تفاعله مع التغيرات التي تصادفه في حياته تفاعلاً يؤثر في أجهزة جسمه المختلفة، ويستمر هذا التفاعل فترة طويلة، وذلك لأن هذا الشخص يذكي هذا التفاعل في نفسه، ويزيد من حدته، فيجعل منه أداة دائمة ومؤثرة في أجهزة الجسم المختلفة. والإنسان بتكوينه الوظائفي يتفاعل مع الأحداث سواء الحسية منها أو المعنوية، ولكن تفاعله يكون لفترة يرجع بعدها إلى حالته الطبيعية.ونحن لا يمكننا أن نتصور أن نرجع العالم إلى الوراء، حتى نزيل ما به من معالم حضارية، وأسباب جعلت الإنسان يسابق الزمن، ويهادنه مرة، ويثور مرات، فيتناحر على غلبته، فتسوء حاله.من ذلك نرى أنه لابد وأن يغير الإنسان من نفسه فيتكيف مع الأوضاع التي تحيط به، ولا يجعل من صغائر الأمور ما يزيد من صراعاته ويؤثر في أعصابه، ويسأل نفسه دائماً : ما فائدة تعقيد الأمور؟ هل يحل المشاكل؟ هل يزيل الصعاب، وما هي السبيل للخلاص وما يعكر الصفو، ويؤثر في النفس؟ وليعرف دائماً وبقوة إيمانه أنه (لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا).ومن هنا يبدأ التفكير السليم في هدوء وأناة. ولابد أن يهديه تفكيره الهادئ إلى مخرج من مأزقه، وبالتالي استرخاء في أعصابه، وطمأنينة في نفسه.والملاحظ على الإنجليز أنهم باردو الأعصاب، هادئو المزاج، قليلو الانفعال. ولعل أهم سبب لذلك هو طريقة حياتهم. فحياتهم قائمة على النظام واحترام الأفراد بعضهم لبعض، والعمل بحرية دون التعرض لحرية الآخرين، فالكل يتبع قضاء حاجياته وهو في صف واحد واحد تلو الآخر، حتى الأطفال الصغار يعودون من صغرهم عدم التعدي أو الخروج من هذا الصف، فالكل ينتظر دوره دون تأفف أو ملل.ختاماً نقول : ما الذي يدعو الإنسان إلى أن يتشاجر ما دام يحس بأنه يأخذ حقه براحة واحترام، ما دام يحس أيضاً بأن حياته مكفولة، وتتوافر له أسباب الطمأنينة وما يتبع ذلك من الهدوء العصبي والنفسي؟
|
اتجاهات
التوتر العصبي في عصرنا المدني الحاضر
أخبار متعلقة