أضواء
كنت في يناير الماضي في روما، والتقيت هناك بمدير المعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية السيد ميغل أنجل، ودار بيننا حديث حول أهمية الحوار بين الأديان، وذكرت له مبادرات المملكة في هذا الإطار وخاصة الزيارة التاريخية التي قام بها قبل شهرين -حينها- خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز للفاتيكان، والتي سعى من خلالها لفتح حوارٍ مباشرٍ وتعاونٍ مشتركٍ مع الفاتيكان لمصلحة العالم، وذكّرته كذلك بالزيارة التاريخية التي قام بها عالم دينٍ سعوديٍ كبير هو الشيخ محمد الحركان في بداية السبعينيات ومعه مجموعة من علماء السعودية والتقوا حينها ببابا الفاتيكان بولس السادس، وسعوا لرسم خريطة للمشتركات التي تجمع ولا تفرّق وتنشر التسامح لا التباغض، وجرت الإشارة كذلك إلى الحوار مع الأزهر الذي بدأ منذ عام 1998، وقد أقرّ لي بهذا، ولكنه تساءل كيف يمكن تحويل مثل هذه اللقاءات والزيارات التاريخية إلى مشروع عملٍ؟ فقلت له: إنّ الإجابة على هذا ليست بيدي ولا بيدك، وإنما بيد القيادات القادرة على القول والفعل.وها هي الإجابة تأتي من الجانب الإسلامي ومن أكبر رمزٍ فيه، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وذلك من خلال مبادرته الكبرى حول حوار الأديان، والتي لا زالت تنتظر موقفاً عملياً مماثلاً من قبل الفاتيكان والقيادات الدينية والسياسية في الديانات السماوية الثلاث والبلدان التي تنتشر فيها.بالمقابل، فإن مجامر المتطرفين تفتح أفواهها إلى أقصى مدىً تستطيعه حتى تبتلع ما تمكّنها اللحظة الراهنة من ابتلاعه مستعينة بكلّ أنواع الحقد التاريخي والتأويل الديني الذي يعتمد الكراهية أساساً، ولا تدع حجراً يمكن أن تستفيد منه إلا ألقته بين فكّيها وابتلعته لتتضخم وتكبر.يجري هذا في شرق العالم وغربه، ليس بين الديانات السماوية فحسب، وإنْ كانت هي المستهدفة بدرجة أولية، بل بين المتطرفين من جميع الأديان.وقد استطاع المتطرفون أن يجتذبوا لأفواههم وبطونهم ومجامرهم أحداثاً جساماً وأحجاراً غلاظاً، منذ الحادي عشر من سبتمبر حيث كان عرسهم المعلن، وعيدهم المنتظر، وجحيمهم الحارق الذي يسمّونه زوراً الجنّة وطريقها!فكما كان ابن لادن لدينا -يؤازره كثيرون منهم فقهاء وعلماء ومنهم همج ورعاع- يستجلب لمجمره ما استطاع، فعلى الضّفة الأخرى ثمة آخرون يسعون إلى ملء مجامرهم كذلك، من الرسام الدنماركي سيئ السمعة، إلى الهولندي منتج فيلم “فتنة”، إلى غيرهم عشراتٍ وعشراتٍ.إنّ الواجب قوله الآن هو أنّ العقلاء في هذا العالم ما زالوا يقفون بمرصاد العقل والحكمة والاعتدال ضد هؤلاء المتطرفين، ويردّون عليهم الصاع صاعين، ويتحدّون الموقف العنفي بمواقف تسامحية، والمشروع التخريبي بمشاريع بنائية، والهدف الصراعي بأهداف حوارية، وبينما يحاول أولئك قطع الجسور بين البشر، يسعى أولاء لجسرها وردم أي هوةٍ تحدث فيها.لقد شهد العالم منذ الثمانينيات صعوداً متواصلاً للتيارات الأصولية في شتى أنحائه، ولدى عدد من الديانات التي تقف على رأسها الديانات السماوية الثلاث: الإسلام والمسيحية واليهودية، ووصل الأمر بهذه الأصوليات في حدوده القصوى إلى ارتكاب الجرائم باسم الدين، كما حدث مسيحياً في تفجيرات أوكلاهوما وكما حدث يهودياً في فلسطين، وأخيراً كما حدث إسلامياً في أفغانستان -من بعض النواحي- وأخيراً في تفجيرات دار السلام وتفجيرات منهاتن وما بعدها. لقد كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر نتيجةً وليست مقدمةً، ثمرةً لا شجرةً، منتجاً (بفتح التاء) لا منتجاً (بكسر التاء)، بمعنى أنّ هذا الحدث الكبير الذي غيّر مجرى التاريخ وكان له ما بعده من تداعياتٍ كبرى على مستوى العالم أجمع وعلى مستوى منطقتنا العربية والإسلامية على وجه الخصوص، كان ثمرةً لجهدٍ سابقٍ، ونتيجة لمقدمة تمّ بناؤها عبر سنواتٍ ذوات عدد.إنّنا نتذكر اليوم كيف أنّ بعض الإسلامويين قد هلّلوا وكبّروا لهذه العملية لأول وهلة، ولم يلبث بعضهم أن تراجع عندما أدرك عظم المصيبة التي سبّبها هذا الحدث.ثم كانت أحداث مايو 2003 والتفجيرات في قلب عاصمة المملكة العربية السعودية، وكانت تفجيرات الدار البيضاء، وغيرها، والتي كانت -كذلك- نتيجة لا مقدمةً وثمرة لا شجرة، ومنتَجاً لا منتِجاً، إنها نتيجة مجموعة متراكمة من العوامل من أهمها خطاب ديني يجعل نشر الكراهية أولوية، والتشدد في الدين منهجاً، ويجعل أتباعه في قلقٍ دائمٍ وتحفّزٍ مستمر، وذلك عبر إقناعهم بأنّ الإسلام مستهدفٌ على الدوام، وأنّ العالم -والمجتمعات الإسلامية بالأخص- غارقٌ في الفساد، وأخيراً أنّ الفتن قد فشت وعلامات الساعة قد ظهرت فلم يبق إلا انتظار بقيتها وتتبعها، وتخصص البعض في تطبيق أحاديث الفتن على الواقع، وإن بتكلفٍ ظاهرٍ وتعسّفٍ بيّن.بعد هذه العجينة من المفاهيم التي تمهّد للتطرف والتشدد، يأتي دور المفاهيم الدينية التي تبثّ الكراهية والبغضاء، وتجعل التابع المسكين مستنفراً دائماً تجاه كلّ من يخالفه قريباً كان أم بعيداً.لهذا فإن “القاعدة” عندما سعت لتجنيد الأتباع وجدت أن عجينتهم في السعودية ومصر واليمن والأردن وأمثالها أطرى من غيرها في بلدان أخرى، ولهذا كان التركيز على شباب هذه الدول، خاصةً مع نجاح المتشددين في بناء شبكات متغلغلة في المجتمع يستطيعون من خلالها جمع أكبر عدد من الأتباع والمنظّرين الدينيين والداعمين الماليين.إضافةً إلى أنّ هذه الشبكات قد استطاعت أن توزع الأدوار فيما بينها بطريقة منظمة جداً، فبينما يعلن البعض الولاء للدولة يعلن البعض الآخر العداء لها، وبينما يفتي البعض بالانفتاح النسبي في المجتمع يفتي الآخر بالتشدد التام، وهكذا، والطرفان مهما اختلفا، فإنهما يخدمان بعضهما على الدوام.محلّ الاتفاق بين هذه الأطراف هو انطلاقها جميعاً من مسلّمة أولية لديها جميعها، وهي أنها “الموقعة عن رب العالمين”، وأن لها سلطةً على المجتمع سواء من داخل المؤسسات الدينية الرسمية أم من خارجها بزعم التعاون مع هذه المؤسسات أو استغلالاً وانتحالاً لاسمها دون أن يكون لهذا الاستغلال والانتحال أي تبعةٍ قانونية على الإطلاق!للمحافظة على هذه المكانة، فإنّ تيارات الإسلامويين جميعها عندما تختلف مع غيرها، سواء كان المختلف معه تياراً أم شخصاً أم مؤسسة حكومية، عندئذ تكشّر عن أنيابها وتختفي الخلافات بينها وتصبح صفاً واحداً للدفاع عن مكتسباتها داخل المجتمع، والأمثلة على هذا كثيرة يستطيع الكثيرون أن يستحضروها بسهولة.بطبيعة الحال، فإننا وبعد الحادي عشر من سبتمبر، لسنا مثلما كنّا قبله، إننا نعيش في عالمٍ يمور بالمصالح المتقلبة ومراكز القوى العظمى والاستقطابات الإقليمية التي تسعى لبسط النفوذ واستغلال أي نقطة ضعفٍ لدى أيٍ من الأطراف، ونتذكر جميعاً الهجمة الشرسة إعلامياً وسياسياً وثقافياً على السعودية بعد “غزوة منهاتن”، ولولا حنكة القيادة السياسية التي كان يدير دفّتها الملك عبدالله بن عبدالعزيز، عندما كان ولياً للعهد، لكانت ضربة العراق في بلدٍ غير العراق، ولحصدنا علقم ما زرعه المتشددون الدينيون، ولكن الله سلّم.نحن نرى قياداتٍ كبرى في العالم تتجه نحو الحوار والتعايش والتعاون على الخير والمصلحة والسلام والأخلاق، نجد هذا في مبادرة الملك عبدالله كما نجده في خطاب المرشح “الديمقراطي” باراك أوباما حين قال في 15 أبريل الجاري إن الإسلام دينٌ متسامح، وقبله في خطاب ساركوزي عندما زار السعودية، ونرى بالمقابل دعواتٍ لا تفتر من قبل المتطرفين لرفض كلّ هذه المبادرات والتصريحات وتخريبها، من ابن لادن كما من الرسّام الدانماركي، ومن الظواهري كما من منتج فيلم “فتنة”، والخيارات ما تزال مفتوحةً على الاتجاهين.إن الانحياز لجانب الحوار هو أمرٌ لا بديل عنه، ولكنّ ضمانة نجاحه مرهونةٌ بالخطط التي ستوضع لتطبيقه محلياً وعالمياً، وبالجهد الذي سيبذل لضمان وصوله إلى شواطئ الأمان واستقراره في العقول والقلوب قبل الأبدان.[c1]*صحيفة “الاتحاد” الإماراتية[/c]