لا تخلو فعالياتنا الثقافية والإعلامية من المناقشات والتناولات التي تشير إلى مخاطر محتملة تهدد الهوية والخصوصية الثقافية من جرّاء تزايد الميول الموضوعية لتطور الحضارة الرأسمالية المعاصرة باتجاه العولمة. ولعل أهم ما يميّز تلك المناقشات والتناولات ظهور وجهات نظر مشبّعة بعُصاب ايديولوجي يرى بأن ثمـــــــــــة " غزواً فكرياً وثقافياً " يهدد بالالتفاف على مجتمعاتنا، وطمس خصوصياتها الثقافية، ومصادرة هويتها القومية والدينية، نتيجة انكشاف هذه المجتمعات أمام الفضاء اللامتناهي لثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات.على هذا الطريق سار أيضاً عدد غير قليل من كتاب المقالات والأعمدة في بعض الصحف اليمنية والعربية.. ولطالما قرأنا تصورات مماشثلة حول مخاطر مفترضة تهدد " الهوية والخصوصية "، حيث يذهب بعض الكتاب والصحفيين إلى الإفراط في التحذير من ميكانيزمات " الغزو الفكري والثقافي " التي أطلقتها العولمة الرأسمالية وتكنولوجيا الاتصال والمعلومات، والتحريض من أجل " درء أخطارها العدوانية على هويتنا الثقافية " بحسب ما جاء في مقال أحدهم !لا يقترح هؤلاء المذعورون من تحولات العولمة وتحدياتها حلولاً محددة للتعامل مع هذا " الغزو " القادم عبر الفضاء، وحراسة " الهوية والخصوصية " ، ناهيك عن أنهم لا يرون في تحولات العولمة ومخرجات ثورة الاتصال والمعلومات سوى " الغزو " وليس التحدي ، فيما يستغرقون كثيراً في حديث " المقاومة والدفاع والمواجهة " بدلاً من مناقشة اشكاليات " الإستجابة " وسبل التعاطي معها !! .تشكل التحديات _ على الدوام _ اختباراً حقيقياً لموازين القوى ، وتساعد في الوقت نفسه على استكشاف نقاط الضعف والخلل في بنية العلاقات المتبادلة بين الشعوب والأمم والحضارات والثقافات المختلفة .. وعليه فإن التفكير من منظور " مواجهة الغزو، والدفاع عن الخصوصية الثقافية " ربما يعكس شعوراً زائفاً بالقوة أو التعالي، بحسب ما يراه برهان غليـون ، (1) فيما يقود التفكير من منظور الإستجابة للتحديات الحضارية بدلاً من مقاومتــها ، إلى نقد البنية الداخلية للثقافة السائدة ، وفرز عناصرها المتكلّـسة وغير القادرة على التجدّد، والعمل بعد ذلك على تطوير العناصر الفاعلة في بنية الثقافة بمنطق الإضافة والتجديد الابداعيين ، وصولاً إلى الاستجابة الحضارية للتحديات التي تفرضها فتوحات المعرفة ومنجزات العلم والتكنولوجيا , ومتغيرات الزمان والمكان,وتحوّلات الحضارة في احد منعطفات التاريخ.لاريب في أن التحديات تشكل _ بطبيعتها _ فعل استثارة , وإشارة تنبيه إلى ضرورة اليقظة في لحظة ما , قد تكون حاسمة . ومن جانبها لا تكتمل اليقظة بدون معرفة طبيعة التحدي وقوته ومصادره ووجهة سيره , وصولا الى استنفار القدرات الكامنة في المجتمع الذي يواجه هذا التحدي , وفحصها والتاكد من صلاحيتها ، وقياس درجة قوتها ومدى إستعدادها للتعامل مع اية تحديات محتملة .والحال ان الهدف المحوري لمجمل هذه العمليات التي تقع في منطقة وسط ، بين الفعل وردود الفعل , هو اختيار درجة وقدرة مفاعيل هذه العمليات على الاستجابة للتحديات الحضارية , وإعادة تأهيلها إن كانت غير متوازنة مع قوة واندفاع التحديات المماثلة امامها .. بمعنى إعادة اكتشاف الذات ونقدها وغربلتها وتجديدها . الإحتكاك والتثاقف بطريقة لاتخلو من الخِـفـّة والتبسيط , يقترح بعض الذين كتبوا حول مخاطر العولمة على الهوية والثقافة بعض الحلول لمعالجة إشكاليات التعاطي مع هذه المخاطر المفترضة ، بيد أن تلك الحلول تكرّس _ في نهاية المطاف _ مخرجات ثقافة الاستبداد الشمولية التي نشأت على تربة فقه التشدد ووجدت في بيئة الحرب البـــاردة ، مفاعيل إضافية . كان التفكير بواسطة تلك الثقافة يسوَّغ للسياسة والآيديولوجيا إقامة ستار حديدي حول المجتمعات ، وفرض سيطرة صارمة ومطلقة على وسائل الإعلام والثقافة ومناهج التربية والتعليم ، بهدف تشكيل وتعليب الوعي الاجتماعي للناس في تلك المجتمعات ، إنطلاقاً من منظور ثقافوي يصادر حرية الاختيار، ويحرّم التعددية ويمارس الوصاية على العقل والحقيقة باسم خصوصية تاريخية أو دينية أو آيديولوجية أو قومية . !! ولئن كانت العولمة تفسح مجالاً أوسع لإنفتاح متبادل بين الشعوب والمجتمعات والأفراد والجماعات في مختلف الحقول الاقتصادية والثقافية والإعلامية والإنسانية، فهي تخلق أيضاً إشكالياتها التي تولد من رحم مفاعيلها الجديدة .. فهل يؤدي هذا الانفتاح إلى انكشاف وتعرية الحقول الأضعف ، مقابل سيطرة أحاديـــــــــــــة _ نسبية أو مطلقة _ للحقول الأقوى .. أم يؤدي إلى تعميق التعددية الثقافية والحضارية ، وتوطيد أسسها في المجتمع البشري والبيئة العالمية ؟ بوسعنا القول أن ما يترتب على العلاقات بين الثقافات من أشكاليات ليس أمراً جديداً، لان علم الانتروبولوجيا توصّل منذ فترة _ ليست قصيرة _ إلى صياغة مفاهيم معرفية تساعد على فهم آليات الاحتكاك بين الثقافات، واكتشاف أنساق التفاعل فيما بينها ، ومن هذه المفاهيم ما يـُسمى بالتثاقف.لا يمكن تجاهل حقيقة أن الإنجاز الأبرز لثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات هو حدوث إندماج عضوي بين الفضاء الطبيعي والفضاء الألكتروني ، أسفر عن ضغط الزمان والمكان وتقريب المسافات بينهما ، وإزالة الحواجز الطبيعية والسياسية بين جغرافيا الأسواق وديموغرافيا المجتمعات وسوسيولوجيا الثقافات. في هذا السياق يتوقف الحضور الإبداعي للثقافات في العالم الجديد على وجود استراتيجيات فاعلة للنهوض بالثقافات وتنشيط مفاعيلها في المجتمعات الضعيفة ، على نحو يتنقل بها من النطاق الضيق لثقافات الهوية ، إلى الفضاء الواسع لثقافات المشاركة . لعل ذلك يستوجب تطور الوعي بطبيعة المشكلات القائمة ، والخروج من نفق وعي المشكلات القديمة التي أفرزها عصر الاستعمار والسيطرة الكولينالية ، بما هي مشكلات تتعلق بالغزو الفكري والاستلاب الثقافـي ، وما يرتبط بهما من دفاع عن الهوية ، وتمسُّك بالخصوصية الثقافية في إطار النزوع إلى السيادة والاستقلال. تختلف إشكاليات الهوية الثقافية في عصر العولمة عنها في عصر الكفاح ضد الاستعمار والنزوع إلى الاستقلال وبناء الدولة الوطنية أو الدولة الأمة .. فيما ترتبط إشكاليات الهوية التي تفرزها تحديات العولمة وثورة الاتصال والمعلومات بفضاء طبيعي والكتروني تتفاعل فيه _ على نحو غير مسبوق _ فواعل اقتصادية وثقافية وسياسية وإعلامية وإنسانية ، في عالم منرابط ومتكامل ، بصرف النظر عن تناقضاته وإختلالاته التي يستحيل معالجتها بالإنعزال عن هذا الفضاء ، بل بالاندماج فيه والمشاركة في تعديل شروط توازناته ، وإعادة صياغة مفاعيله الداخلية وبنيته التراتببية .في هذا الفضاء لم يعد بمقدور أي جماعة بشرية أن تعيش بشكل مستقل وبوعي مستقل وبممارسة تاريخية مستقلة، خارج سيرورة الحضارة الإنسانية المعاصرة ، وبمعزل عن إمتلاك شروطها المعرفية وفواعلها المادية.بالقدر ذاته يتطلب الإلتحاق بالعصر والاندماج في حضارته الحديثة فواعل وموارد بشرية وثقافية ومعرفية نشطة ومتجددة . وبدون ذلك لا يمكن فهم ومعالجة الإشكاليات الحقيقية للهوية والخصوصية المفترضتين ، وفي مقدمتها إشكاليات التقليل من خطر التماهي مع الثقافة السلفية التي تنزع إلى الإقامة الدائمة خارج العصر، وتتمسك بثقافات ضعيفة وعاجزة عن الاستمرار والتجدد .ثقافات سادت ثم بادتيقيناً أن الثقافات والخصوصيات ليست حتميات مثالية وثوابت مطلقة ، بمعنى أنها ليست عناصر ثابتة عبر التاريخ . لأن الإنسان هو الذي يصنع تاريخه وهويته عبر سيرورة حضارية متجددة وغير ثابتة .. ولو لم يكن الأمر كذلك لما كانت هنالك ثقافات وحضارات وهويّات سادت ثم بادت عبر التاريخ ، رغم أن أطلالها وآثارها الباقية تشهدان على أنها كانت قوية ومتألقة في زمانها ومكانها ، غير أن تحوّلها الى آثار ماضوية تاريخية , يعد دليلاً أكيداً على عجزها عن التجدد والإستمرارية ، وفشلها في الإستجابة لتحديات حضارية واجهتها في منعطفات حاسمة من تاريخ تطور المجتمع البشري. يعلمنا تاريخ الحضارات _ بما فيها الحضارة العربية الإسلامية _ أنه لا توجد ثقافة مستقلة كلياً عن الثقافات الإنسانية الأخرى ، لأن الثقافات محكومة بآليات وأنساق التفاعل والتثاقف والتلاقح حتى وأن كان ذلك يتحقق بنسب متفاوته.وما من شك في أن التفاوت الذي نقصده ، محكومٌ هو الأخر بقدرة كل ثقافة على التجدد والإستجابة لتحديات التحول في أزمنة الانعطافات التاريخية الكبرى ، أي بقدرتها على إبداع حلول معاصرة للمشاكل الجديدة التي تبرز وتستجد في مجرى تطور مجتمعاتها ، بدلاً من النزوع إلى الإقامة الدائمة في الماضي ، والمحافظة على البنى المتكلّسة للثقافة الموروثة ، والإفراط في الوهم بامكانية إعادة انتاج حلول ماضوية لإشكاليات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية معاصرة ، أوالاستنساخ الأعمى لحلول جاهزة ابدعتها ثقافات أخرى في عصور وأزمنة سالفة . اللافت للنظر أن الذين يحذرون بصوت عالٍ من خطر العولمة على الهوية والخصوصية الثقافية ، لا يحدّدون طبيعة المخاطر ولايحلّلون محتواها بدقة ، ولا يجتهدون في مقاربة ونقد الهوية والخصوصية والتعرّف على وجهة كل منهما باعتبارهما أهدافاً لهذه الاخطار المفترضة التي يتحدثون عنها بقلق شديد!!. إن التحليل الدقيق للخطر المفترض، والتوصيف الدقيق للهدف الذي يسعى إليه هذا الخطر ، ضائعان تماماً في عموم المناقشات والتناولات التي أشرنا إليها في مفتتح هذا المقال .. ولعل ذلك يعود إلى هروب نمط التفكير المألوف في حياتنا الثقافية التقليدية من النقد الموضوعي لثقافة العولمة ، والذي سيفرض علينا بالضرورة نقداً موازياً لثقافة الهوية والخصوصية .. فبدون ممارسة النقد وتعظيم دوره الوظيفي لن نستطيع بلورة موقف سلبي أوايجابي من " خطر ثقافي " مفترض تحمله إلينا رياح العولمة ، ولن نستطيع أيضاً التمييز فيما إذا كان هذا الخطر يهدد احتياجات النهوض الحضاري للقوى الجديدة والنامية في المجتمع ، أم يهدد مصالح البنى التقليدية للمجتمع و ونزوعها الى المحافظة على ثقافتها المتكلسة والمهيمنة ؟. دون هذا النقد لا نستطيع تعيين سبل وأشكال الدفاع عن خصوصية وهوية مفترضتين، ومعرفة ما تنطوي عليه البيئة الثقافية لهذه الهوية والخصوصية من قابلية للانكشاف أمام التحديات الحضارية ، أو قدرة على الاستجابة لها .سـؤال الهوية والخصوصية أزعم بأن الخطر الحقيقي الذي يهدد التطور الحضاري لمجتمعاتنا العربية الإسلامية لا يكمن في العولمة وتحدياتها ، بل في الإعتقاد الموروث بتماهي الخصوصية الثقافية التي يجري الحديث عنها مع العقيدة الدينية التي لا خلاف على دورها في تشكيل هويتنا وثقافتنا.إن جانباًً أساسياً من أزمة التطور الحضاري لمجتمعاتنا يكمن في واقع أن الثقافة السائدة التي تهددها تحديات العولمة ، لا تمثل الإسلام الحقيقي كعقيدة دينية لهذه المجتمعات , رغم محاولات تلفيق نوع من التماهي الزائف بينها والدين الاسلامي في موروثنا الثقافي الذي تشكّل على أساسه الوعي الإجنماعي منذ فترة طويلة، وهو ما سنسعى إلى توضيحه لاحقاً.ثمة مبالغة في مفهوم العولمة عند أغلب أن لم يكن كل الكتابات والتناولات التي أشرت إليها سابقاً، خصوصاً حين نلاحظ ما يشبه الإصرار على تكثيف هذا المفهوم وحصره في نطاق نتائج ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات فقط ، وهو تعريف تقني , ومبتسر ينظر إلى العولمة بوصفها ظاهرة جديدة، ويحصر اشكالياتها في نطاق ضيّق لا يتجاوز البعد الثقافي فقط . تأسيسا ً على ذلك يُخطئ من يعتقد بأن العولمة الرأسمالية ظاهرة جديدة يسهل مناهضتها ومقاومتها بالاحتجاجات والمظاهرات والمقالات والدعاء بالمساجد ، فثمة ميول قديمة للعولمة ارتبطت بتطور نمط الانتاج الرأسمالي وميوله نحو العالمية التي عزّزتها وضاعفت مفاعليها إنجازات العلوم الحديثة ، ونتائج الكشوفات الجغرافية ومخرجات الثورة الصناعية الأولى في منتصف الألفية الثانية من التاريخ الميلادي ، لتتحول بعد ذلك إلى نظام عالمي للإنتاج والتسويق والإستهلاك نشأت على تربته حروب وخطوط السيطرة على الأسواق ومصادر الخامات وممّرات الملاحة الدولية في مختلف القارات!!(2).صحيح ان الاستعمار وحروب التوسع الاستعمارية اسهما في إيقاظ الوعي الوطني وظهور الحركات القومية التي تتوّجت بولادة الدولة الأمة ، على أنقاض الدول الامبراطورية الجامعة والهويات الدينية والعصبية والمانعة ، وما ترتب على ذلك من إشكاليات ثقافية نجمت عن ظهور نزعات مصاحبة للدولة القومية مثل الشوفينية والتعصّب القومي ، ووصلت ذروتها في النازية والصهيونية والأبارثيد .ولكن من الصحيح ايضا ً أن المظهر الأبرز للعولمة في الحقبة الجديدة والراهنة من عصرنا ، بقدر ما اكتسب طابعاً ثورياً نتيجة لثورة تكنولوجيا الإتصال والمعلومات التي اختصرت المسافات ، وتجاوزت الحدود السياسية والقومية والثقافية ، بقدر ما أسهم في تقويض الأسس المادية للشوفينية وضيق الأفق الوطني والتعصّب القومي , وصولاً الى إفساح الطريق أمام توسيع فرص وإمكانات تلاقح الثقافات ، وتحفيز الشعوب والأمم المختلفة لبناء نظام عالمي للقيم الانسانية.ولعل تلك الميول تنطوي على أبعاد ايجابية من شأنها تحفيز مختلف الثقافات على الإبداع في مجال القيم الإنسانية المشتركة ، وما يترتب عن ذلك من تعظيم فرص مطالبة الشعوب والمجتمعات المختلفة بالديمقراطية والعدالة والمساواة ، ومكافحة جميع أشكال التمييز بين البشر رجالاً ونساءً ، وفي المقدمة منها التمييز ضد المرأة!من نافل القول أن الاستجابة لتحديات العولمة في طورها الجديد لا تتحقق بواسطة طرح سؤال الخصوصية والهوية من منطلق دفاعي انعزالي ، لأن النزوع إلى الدفاع أو المقاومة الدفاعية قد ينطوي على رفض مموّه للقيم الإنسانية المشتركة ، وهروب متعمد من واجب دفع استحقاقات الالتحاق بالعصر والاندماج في الحضارة الحديثة ، وصولاً إلى العجز المطلق عن إضفاء أبعاد ثقافية على هذه القيم المشتركة ، والإنسحاب من مباراة تطوير وتأهيل الثقافات لإستيعاب مطالب وإحتياجات الشعوب والمجتمعات في هذه الحقبة من تاريخ تطوُّر الحضارة البشرية المعاصرة . ليست الخصوصيات الثقافية عناصر ثابتة لا تخضع للتطور التاريخي الحضاري , ولسنا بحاجة إلى التذكير بان الثقافة السياسية المهيمنة على العالم العربي والإسلامي تصـدّت للأفكار الدستورية والديموقراطية تحت شعار مقاومـة " التغريب " , ومحاربة " الافكار المستوردة " . كما عارضت الميثاق العالمي لحقوق الانسان , ورفضت _ بعناد شديد _ تلبية مطالب المجتمع الدولي الحديث بتحريم الرق من خلال إصدار تشريعات وقوانين وضعية . وكانت تلك المواقف الرافضة للحداثة تتغطّى دائماً بذرائع " الهوية والخصوصية الدينية والثقافية " !! لم يكن الفقهاء في عاصمة دولة الخلافة العثمانية يفكرون خارج الخصوصية الثقافية حين عارضوا في رسالتهم الشهيرة إلى السلطان العثماني في القرن السابع عشر الميلادي التوقيع على معاهدة وينسفاليا 1648 التي فرضتها حاجة الرأسمالية الصاعدة والثورة الصناعية في عصر النهضة لوقف حروب التوسع الإقطاعية , وتأسيس فكرة السيادة الحدودية الوطنية , وتمهـيد الطريق لولادة الدولة القومية وبناء منظومة جديدة للعلاقات بين الأمم والدول . كـان فقهاء الدولـة العثمــانية في العــالم الإسلامي يرون في التوقيع على هذه المعاهدة " تعطيـــلاً لآيــات ( السيف ) وإنكاراً لفريضة الجهاد التي تُوجب نشر الدعوة الإسلامية والتمكين لدين الله في الأرض بواسطة الغزوات الجهادية " ( 3 ) ، وكذلك الحال عندما أفتى الفقهاء في القرن التاسع عشر بعدم جواز الخضوع لمطالب الدول الأجنبية بتحريم الرق ، لأن التحريم المطلوب تشريعٌ وضعيٌ لا أساس له في الشريعة الإسلامية التي تُـبيح للرجال التسّري بالجواري ونكاح ملك اليمين ! ومما له دلالة أن علماء اسطنبول والقاهرة ومكة والنجف وطنجة وقُم وصنعاء أتهموا آنذاك أوروبا وأمريكا التين كانتا تضغطان على الدول العربية والاسلامية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين الميلادي، لإصدار تشريعات تحرّم الرق، بأنهما تسعيان إلى تغيير القرآن والتدخل في نمط ومناهج حياة المسلمين.(4 ).استجابات متأخرةمن خلال ما تقدم نستطيع تفسير اسباب تأخر العالم العربي والإسلامي عن الإستجابة الثقافية لتحديات الموجة الأولى والمبكرة للعولمة الرأسمالية والحضارة الصناعية الحديثة ، اللتين استوجبتا صياغة أسس جديدة ومعاصرة للعلاقات بين الدول والأمم والأديان على نحو ماتضمنته معاهدة وينسفاليا في القرن السابع عشر , ومعاهدة تحريم الرق التي سعت الثورة الأميركية بالتعاون مع أوروبا الرأسمالية الى تدويلها في أواخر القرن التاسع عشر. ومما له دلالة أن تكون اليمن والسعودية _ اللتان لم تخضعا لأي استعمار أجنبي _ أخر دولتين حرّمتا الرق في العالم ، " حيث أصدر مجلس قيادة الثورة في الجمهورية العربية اليمنية في الخامس عشر من أكتوبر 1962م أي بعد ثورة 26 سبتمبر بثلاثة أسابيع مرسوماً جمهورياً قضى بتحريم الرق والتوقيع على المعاهدة الدولية لتحريم الرق ، الذي كان يوجد في اليمن ، ودفع المملكة العربية السعودية إلى الإسراع _ في وقت متأخر جداً _ بالغاء الرق رسمياً في الثامن والعشرين من نوفمبر2691م« (5). في هذا السياق يمكن القول بأن أغنية " جيشنا يا جيشنا " التي بثتها إذاعة صنعاء لأول مرة مصحوبة بالآلات الموسيقية الشرقية ، فور قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م ، دشّنت أول ممارسة ثقافية مغايرة لثقافة التحريم الذي فرضتها االمؤسسة الدينية الثيوقراطية للنظام الإمامي البائد , وحرّمت بموجبها الأغاني والآلات الموسيقية بذريعة حراسة الدين ومكافحة المحرّمات والمفاسد ، والدفاع عن الهوية وحماية الخصوصية ، علماً بأن ما تبقى من رواسب تلك الثقافة البالية لا يزال " يجاهد " من أجل البقاء ، بذريعة التمسك بالهوية والخصوصية أيضاً !! . لا نحتاج إلى القول بأن تحريم الرّق في العالم الإسلامي تم بمقتضى ضغوط الحضارة الصناعية الحديثة ، والموجة الأولى من " العالمية " التي رافقت ظهور وتطور نمط الانتاج الرأسمالي كنظام اقتصادي عالمي في العصر الحديث ، وقد نتج عن تحريم الرّق تراجعٌ مطلقٌ لخصوصيات ماضوية في النظام القيمي والحقوقي لثقافتنا ، وأهمها حقوق الرجال في التسرّي بالجواري ، وحقوق الأحرار في التمييز بينهم وبين العبيد في المعاملات والعقوبات الجنائية ، بحسب ما ينص عليه تأويل الفقهاء الأسلاف للشريعة الإسلامية . لم يكن بروز مثل تلك الإشكاليات شيئاً جديداً في التاريخ الثقافي للمجتمعات الإسلامية ، فقد ظل العالم الإسلامي يرفضاإستخدام المطبعة تحت ضغط الفتاوى الفقهية التي شكلت عنصراً طاغياً في النسيج التقليدي لثقافتنا .كان رأي الفقهاء في المطبعة _ على سبيل المثال _ أنها مفسدة من شأن السماح باستخدامها فتح الباب على مصراعيه لانتشار الكبائر والموبقات مثل طباعة الرسوم وتغيير حروف القرآن ، والقضاء على الكتابة بالخط العربي الذي كان حرفةً مجزيةً يرتزق منها الفقهاءُ والقضاة وكبار موظفي الدواوين في بلاط دولة الخلافة ، ويحصلون من ورائها على الحظوة والمال وعلوّ الشأن . ( 6 )بسبب هذه الثقافة لم يفطن المسلمون لقيمة المطبعة في التطور الحضاري ، ولم يستوعبوا جيداً دورها الوظيفي في إطلاق مفاعيل التعليم والثقافة والعلوم والمعرفة ، وتحويلها إلى فواعل اقتصادية واجتماعية وحضارية . ولذلك كان نظام التعليم في العالم الإسلامي حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين محصوراً في الجوامع والكتاتيب التي اكتفت بتحفيظ القرآن و شرح الأحاديث النبوية وأقوال الفقهاء ، بالإضافة الى تلقين قواعد اللغة العربية والنصوص الشعرية ، كما كانت الدراسة في الجوامع والكتاتيب ترتدي طابعاً نخبوياً ضيقاً ، وتنحصر في نطاق ابناء الطبقة السياسية الحاكمة والنخب المحيطة ببلاط السلطان مثل القضاة والفقهاء وقادة الجيش والجواسيس والتجار . ( 7) المعروف ان الطباعة العربية بالحروف ظهرت في أوائل القرن السادس عشر في إيطاليا ، بأمر البابا يوليوس الثاني ودشنها البابا ليون العاشر سنة 1516م ، وهو العام الذي طبع فيه اول كتاب ديني عن المسيحية ، تلاه طبع سفر الزبور سنة 1516 ، وبعد زمن قصيرمن طباعة سفر الزبور طبع القرآن الكريم في البندقية ، ثم أعدمت طبعته خوفا ً من تأثيره على معتقدات النصارى.، بيد أن الإيطاليين طبعوا في روما ترجمة للقرآن الكريم باللغة الإيطالية سنة 1547م كما طبعوا قانون إبن سيناء في مجلد ضخم عام 1593 م وهو الكتاب الذي أفتى الفقهاء المسلمون بإحراقه وتعرض لهجوم شديد على يد ابو حامد الغزالي وابن تيمية . وقد كثرت المطابع العربية في أوروبا وطبعت فيها مئات من كتب الفلاسفة العرب والمسلمين الذين أضطهدهما أئمة الفقه السلفي المتشدد ، وتعرضت كتبهم للإحراق بعد تكفيرهم ، وكان أكثر هذه المطابع في في لندن وباريس وليبسك وليدن وغونتجتن وروما وفينا وبرلين وبطربسبرج وغيرها . اللافت للنظران العالم الإسلامي عرف الطباعة لأول مرة في أوائل القرن السادس عشر في الأستانة عاصمة دولة الخلافة العثمانية لكن الفقهاء قاوموا وجودها بقوة ، الأمر الذي دفع يهود الدولة الإسلامية الى الإسنفادة منها بطبع ترجمة عربية للتوراة ، أما الطباعة باللغة العربية فقد دخلت العالم الإسلامي لأول مرة في منتصف القرن الثامن عشر على يد محمد جلبي وإبنه سعيد . . وكان الجلبي سفيرا ً للدولة العثمانية في باريس فشاهد وابنه سعيد فوائد الطباعة ، ونجح بصعوبة بالغة في إقناع الفقهاء ورجال الدين في دولة الخلافة العثمانية الذين أصدروا عام 1728 م فتوى بطباعة الكتب غير الدينية فقط.وعندما لاحظ الفقهاء إنتشار كتب الحكمة والفلسفة واللغة والأدب والتاريخ والطب والفلك والجغرافبا والفيزباء والكيمياء ورخص أسعارها ، شعروا بالإنزعاج ، فأصدروا فتوى أخرى تجيز طبع الكتب الدينية وآذنوا بطبع وتجليد القرآن الكريم ، الأمر الذي أفسح المجال لانتشار المطابع وظهور الصحف والمجلات والمدارس الحديثة التي تعتمد على الكتب المدرسية المطبوعة .من المفارقات المؤلمة ، ان المسلمين كانوا يصنعون ورق الطباعة ويصدّرونها إلى مختلف البلدان ، وفي مقدمتها الصين التي اشتهرت بصناعة وتصدير المطابع اليدوية القديمة إلى الأمصار المختلفة في العصور الوسطى ، باستثناء العالم الإسلامي الذي رضخ للفتاوى الخاصة بتحريم الطباعة باسم الدين ، ثم أُجبر بالقوة على التعامل مع المطبعة ، بعد إن عرفها لأول مرة في القرن الثامن عشر الميلادي على يد نابليون بونابرت الذي أحضرمطبعة باللغة العربية مع الحملة الفرنسية على مصر ، وطبع بها كتاب "وصف مصر" الشهير , وهو أول كتاب يطبع باللغتين العربية والفرنسية في العالم الإسلامي . ( 8)وعندما فكر الباب العالي في عاصمة دولة الخلافة _ اسطنبول _ في استخــدام المطبعة ، بعد أن بدأ الاهتمام بفوائدها على أثر دخولها مصر ، وطباعة كتاب "وصف مصر" باللغة العربية ، ثارت ثائرة الفقهاء الذين اعتبروها بدعةً وغزواً ثقافياً شيطانياً ، واصدروا فتوى مماثلة لفتوى عدم جواز التوقيع على معاهدة ويستفاليا في القرن السابع عشر والفتوى المعارضة لمعاهدة تحريم الرق التي صدرت في وقت لاحق .! محنة العقل حدث ذلك أيضاً في العصور الوسطى ، عندما اسهم نشاط حركة الترجمة من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية في استنهاض أدوات التفكير العلمي ومناهج البحث الفلسفي ، ما أدى إلى أن يحارب الفقهاءُ ورجال الدين المتشدّدون في منتصف الألفية الهجرية الأولى ومطلع الألفية الميلادية الثانية إبن رشد وإبن سيناء والفارابي والرازي وإبن الهيثم وغيرهم من القمم الفكرية والعلمية في التاريخ الاسلامي ، التي ترجمت ارسطو وافلاطون وسقراط وأعلام الفكر الاغريقي القديم .لم يكتف الفقهاء ورجال الدين المتشدّدون بمحاربة الفلسفة وعلوم الطب والرياضيات والكيمياء والمنطق والفلك ، بل سعوا إلى تكفير العلماء والتنكيل بهم وإحراق كتبهم ومؤلفاتهم ، وكانوا سبباً فياإنتقال المؤلفات الناجية من محارقهم إلى أوروبا ، حيث أُمكن ترجمتها من العربية إلى اللغات الأوروبية ، وما تمخض عن ذلك من إرهاصات نهضوية أخرجت أوروبا المسيحية من ظلام العصور الوسطى على يد العلماء المسلمين الذين تعرضوا للتنكيل والتكفير في العالم الاسلامي . وأفضت الحرب التي شنها فقهاء التشدد على العقل منذ منتصف القرن الهجري الخامس الى تأسيس مشروع ثقافة طقوسية نكوصية ابتعدت عن جوهر العقيدة الإسلامية ، ومهدت لغروب شمس الحضارة الإسلامية ، وأدخلت العالم الإسلامي نفقاً مظلماً وطويلاً، وهو ماسنوضحه لاحقاً .وحين بادر بعض المفكرين الإسلاميين في العصر الحديث ـ على تربة صدمة الحداثة الغربية ـ الى ترجمة بعض الأعمال المعاصرة من اللغات الأوروبية إلى اللغة العربية في العالم الإسلامي ، تعرض هؤلاء , أيضاً , لحملة ضارية بتهمة مماثلة هي " التغريب والاستسلام للغزو الفكري والثقافي الإستعماري " . وفي هذه المواجهة تحالفت المؤسسة الدينية مع البنى التقليدية في المجتمعات الإسلامية للضغط على الملوك والسلاطين والحكام بكل السبل من أجل قمع أولئك المفكرين ومحاصرة أفكارهم الجديدة. في هذا السياق لا يمكن تجاهل البعد الثقافي التجديدي للمعركة الشجاعة التي خاضها الملك عبد العزيز آل سعود ضد غلاة " الأخوان " الوهابيين في السعودية عام 1936م ، حين قاوموا نتائج الإحتكاك بالطور الإمبريالي الأول للعولمة الرأسمالية في أوائل القرن الماضي ، وتصدوا بسلاح البندقية وسلاح الفتوى للأبعاد الثقافية الحداثية لهذا الاحتكاك في مجالات الاتصال والتصوير والموسيقى والراديو و الطباعة , وقد عكست معركة الملك عبد العزيز مع غلاة " الأخوان " فارقاً نوعياً كبيراً بين مفاعيل السياسة المعاصرة التي تدرك اهمية تحديث الدولة وضرورة الانفتاح على العالم الجديد والاندمـاج في حضارة العصر الحديث من جهة ، وبين الهاجس الايديولوجي و الثقافوي الشعبوي للمجتمعات المنكوبة بفوبيا الخصوصية والهوية من جهة أخــرى.( أحمد الحبيشي )( يتبع غداً )
إشكالية الهويّة في عالم متغيّر (1 - 3)
أخبار متعلقة